أمين ساعاتي - أستاذي ومعلمي .. الدكتور محمد عبده يماني
لم يكن معالي الدكتور محمد عبده يماني ـــ رحمه الله ـــ شخصية عادية، بل كان سبيكة ذهبية فيها من كل أعمال الخير والبر نصيب وافر، رجل اجتمعت فيه كل خصال الرجال الطيبين، وإذا كان كثير اكتسب شهرته من الوزارة التي تقلدها ومن المال الوفير الذي جمعه، فإن الدكتور محمد عبده يماني اكتسب سمعته المشرفة من العلم الغزير الذي تمتع به، ومن حبه لمكة المكرمة التي تحلى بها، ومن النصرة التي سخرها للمكلومين والضعفاء والمحتاجين، محمد عبده يماني هذا المكاوي الذي نبت في بطاح مكة، وتربى تحت أسوار بيوت النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ وصحابته الكرام، ولعب في الوادي الكبير وادي مكة المكرمة، وعجن نفسه بآثارها الإسلامية الخالدة حتى أصبح هو أثرا من آثار مملكتنا الغالية، فقدنا رجلاً من رجالات المملكة وعالماً من ُعلمائها، وعَلَماً من أعلامها، نعم لقد فقد الوطن برحيل محمد عبده يماني نسمة عليلة كانت تعطر المجالس الكثيرة التي كان يرتادها. حينما كان الدكتور محمد عبده يماني في الوظيفة الرفيعة كمدير لجامعة الملك عبد العزيز .. كان شديد التواضع، وكان معجوناً بحب الناس يمنحونه احترامهم وتوقيرهم، وحينما تقلد الوظيفة الأعلى وأصبح وزيراً للإعلام ازداد عدد المحبين ولم يقلوا، لأن الوظيفة الرفيعة المستوى لم تغير صفة التواضع التي كان يتمتع بها هذا الإنسان الجليل، بل زادت فيه صفة التواضع الأصيلة.ولذلك حينما غادر الوظيفة العامة لم يهبط الدكتور محمد عبده من قلوب الناس ولا من ذاكرة الناس، بل زاد ألقه وارتفع أكثر وأكثر، لأن وظائفه في المجتمع ازدادت ولم تقل، فقد نذر نفسه لخدمة المزيد من الناس، كل الخدمات الإنسانية أصبح الدكتور يماني يقدمها لمستحقيها، لأنه كان صديق المساكين، محمد عبده يماني باختصار هو قاطرة من الألقاب، فهو إنسان ومفكر وجامعة وجيولوجي وداعية ومصلح ومحسن وسمح وشفيع وساع فى الخير .وبعبارة أخرى نستطيع القول إن محمد عبده يماني لم يكن ـــ في يوم من الأيام ـــ وظيفة، بل كان ـــ بأعماله الإنسانية ـــ أعلى من كل الوظائف، فهو قاض منصف إذا شاءت الظروف أن يفصل بين متخاصمين، وهو حاكم عادل إذا شاءت الأحوال أن يحكم بين المحكومين، وهو ند حصيف إذا شاءت الأقدار أن يتحاور مع المتحاورين، وهو المفكر الإسلامي البارع والأديب المفوه إذا شاء الوقت أن يتحاور مع المتحاورين.والحقيقة تربطني بمعالي الأستاذ الدكتور محمد عبده يماني علاقات متعددة المستويات، فهو أولاً أستاذي ومعلمي حينما كان مديراً لجامعة الملك عبد العزيز، وكنت طالباً في قسم الاقتصاد والإدارة، وبحكم أنني كنت رئيساً للجنة الثقافية في الجامعة كنت على اتصال مع كل القيادات العليا في الجامعة، وكان على رأسها مديرها الرائع الدكتور محمد عبده يماني.وكنا حينما نجتمع إلى معاليه كان يردد مقولته الشهيرة ''إن العملية التعليمية هي كتاب وطالب ومعلم''، ويؤكد في كل مناسبة على هذه الثلاثية الغراء، فهو يريد أن يتضافر الأستاذ ويدفع الطالب إلى المكتبة لمصادقة الكتاب الجامعي.وطوال علاقاتي بالدكتور محمد عبده يماني التي تزيد على الثلاثين عاماً عرفت فيه أنه صديق للمعرفة سواء على مستوى العلوم، أو على مستوى العلاقات الإنسانية والاجتماعية، فإذا عرفته لن يتركك تفلت من تلك العلاقة الحميمة، بل يظل حفياً بك، إنه يعتبر معرفة الإنسان لأخيه الإنسان كنزا تجب المحافظة عليه، ولذلك فهو يحترم التواصل وهو حريص على تلبية الدعوات التي توجه إليه في كل المناسبات، وحينما تهل طلعته على المكان تتسابق القلوب قبل النفوس للترحيب به.كنا في الصف الرابع (البكالوريوس) وحدث خلاف بين الأستاذ والطلاب، وأحس الطلاب الذين كانوا على أبواب التخرج أن هذا الأستاذ ربما يعرقل تخرجهم، فطلب منى زملائي أن أنقل إلى مدير الجامعة رغبتهم في الاجتماع به، وذهبت إلى مكتب مدير الجامعة أطلب ـــ باسم طلاب البكالوريوس تخصص اقتصاد ـــ الاجتماع إلى معالي مدير الجامعة، وحينما علم معالي الدكتور أنني أطلب موعداً للاجتماع إليه رحب على الفور، فقلت لمعاليه: إنه اختلاف في المنهج وليس اختلاف على الدكتور، ولكن المفاجأة أن معاليه رفض أن يطلب الطلاب الاجتماع إلى مدير الجامعة، وقال أنا الذي أطلب الاجتماع إلى الطلاب، واجتمع طلاب البكالوريوس مع معالي مدير الجامعة، وفى الاجتماع استمع إلى كل الشكاوى وهو مستمع جيد، ثم قال لأبنائه الطلاب: الحل قريب، وفعلاً كان الحل التربوي أقرب مما كنا نتصور.وحينما كان معالي الدكتور محمد عبده يماني وزيراً للإعلام نشرت دراسة في إحدى الصحف عن خطة التنمية الثانية، ولم تجد الدراسة ترحيباً من وزارة التخطيط، واستدعيت إلى الرياض للمساءلة، وقالت لي الصحيفة اذهب إلى مكتب معالي وزير الإعلام لأنه أخذ على عاتقه أن يحقق معي بنفسه، واهتزت فرائصي وقلت لنفسي: شكل القضية مخيف، وسافرت إلى الرياض وتواجدت في مكتب معاليه، ثم دخلت على معالي الوزير الدكتور محمد عبده يماني واستقبلني بابتسامته التربوية المعهودة، ثم قال: إيش هذا الذي عملته، وعقد لساني ولم أنبس ببنت شفة، بل فتحت الشنطة وأخرجت تقريراً من هيئة الأمم المتحدة، فقال بسرعة المسألة ليست هكذا، وطلب مني أن أذهب إلى وزارة التخطيط لمقابلة معالي وزير التخطيط، ثم أعود إلى مكتبه لأنه يدعوني إلى تناول طعام الغداء في بيته، ثم قال مخففاً القضية سوف يتغدى معنا ابن حارتك الدكتور عبد الله نصيف، وساعتها فقط عادت دقات قلبي إلى حالتها الطبيعية وشعرت بأن المسألة ليس فيها سجن!وبعد ذلك كرت السنوات وجمعنا مجلس طيب الذكر الوزير البترولي معالي الأستاذ هشام محي الدين ناظر عيْن أعيان مدينة جدة، كنا نجتمع في داره العامرة كل يوم أربعاء، وحينما كانت طلة الدكتور يماني تهل علينا نقف جميعاً مهللين ومكبرين ونقعده في الصدارة، في المكان الذي يستحقه ويليق بمكانته الرفيعة. ولقد ظل التواصل بيني وبين الدكتور محمد عبده يماني مستمراً وكنت حريصاً جداً على أن أدعوه إلى أي مناسبة في بيتي، لأنني واثق بأنه يحضر ويشرفني ويشرف المناسبة ويطرح فيها البركة.وهكذا ُقفل الملف وترجل الإنسان الصادق الصدوق الدكتور النابغة محمد عبده يماني إلى رحمة الله، وهذا مصير كل إنسان يأتي إلى هذه الدنيا ويرحل عنها ولكن يبقى بعد الرحيل ملفه الذي يتداوله كل الناس ويدعون له بالرحمة وبلوغ الفردوس الأعلى.