د. عائض الردادي - ذكريات لا تنسى
قد ينعقد اللسان، ويصمت القلم من هول الفاجعة، وهذا ما حصل عندما فوجئت صباح الثلاثاء 3/12/1431هـ (9/11/2010م) بوفاة معالي د. محمد عبده يماني يوم الاثنين ذلك الإنسان الذي ملأت عليه الإنسانية كل جوانحه، وعمر قلبه بحب القرآن، وبحب محمد صلى الله عليه وسلم، وبتعليم الأولاد حبه وحب صحابته وآله، وأصدق ما يوصف به أنه رجل البر والإحسان ليس بماله فحسب، ولا بإنشاء المدارس والجمعيات فحسب، وليس بمواساته للمحزونين فحسب ولس بجاهه فحسب، بل لقربه من الأيتام والمساكين وذوي الحاجات، وبتواضعه وراحته للتواصل والصلة معهم.تاج محمد عبده يماني التواضع وقضاء حاجات الناس والوقوف الى جانب المحتاج ليساعده بالمال إن كانت الحاجة مالا وبالجاه والسعي إلى الإصلاح أو الانتهاء إن لم تكن ذات صبغة مالية.عندما جاء محمد عبده إلى وزارة الإعلام كان شاباً في السادسة والثلاثين، وكان التوقع أن يكون مزهوا بنفسه، غير أن التواضع كان سياجه، والقرب من الموظفين كان ديدنه، ولم يكن يهز أطراف عباءته زهواً وغروراً، عامل الكبير أخا والصغير ابناً، ولذا كانت الوزارة أسرة واحدة، وكثير منهم قد دخل منزله لأنه كان من عادته إذا دعا ضيفا لمنزله أن يدعو معه من يماثله إن كان صحفيا، أو مذيعا أو مخرجا أو معداً أو مهندساً أو غير ذلك.كان مكتب الوزير في إذاعة الرياض، فلم يكن مجمع التلفزيون آنذاك موجوداً، بل هو الذي وقع عقده وتم خلال وزارته، وسأل عن المسجد عندما حان وقت صلاة الظهر فكان الجواب أن الصلاة تقام في أحد الممرات فوجه بتحويل المقصف المجاور لمكتبه (الذي ظل مغلقا منذ إنشائه) إلى مسجد، وكان يصلي مع الموظفين بل لا تقام الصلاة إلا بحضوره.كان محمد عبده يزور والدته في المستشفى التخصصي بعد صلاة الفجر ويحضر لمكتبه في السابعة، ويمر أحيانا على العاملين في استديوهات الإذاعة مطلعا على العمل ومشجعا للموظفين، وكان يأنس للموظفين ويأنسون له.كان يقف إلى جانب الموظف يؤازره ويساعده دون أن يسكت عن خطأ أو خلل، ولكنه كان موجهاً مصلحا، ولم يكن معنفا، ولا لائما، ولا محبا للعقاب، وكان معه جناحان يؤازرانه في الإنسانية والحدب على الموظفين هما وكيل الوزارة للشؤون الاعلامية د. عبدالعزيز خوجه ووكيل الوزارة للشؤون الإدارية الاستاذ ابراهيم القدهي، ولن أبالغ إن عبرت عن رأيي فقلت: إن تلك الفترة كانت فترة الحب والتآلف والفريق الواحد بين منسوبي الوزارة، بل هي فترة الذكريات الحسنة بالرغم من شابها من أحداث مؤلمة عام 1400هـ.دخلت مرة مكتبي صباح الثلاثاء الحزين عام 1400هـ ظانا أنني سأخرج كالمعتاد في نهاية الدوام، لكنني لم أخرج إلا بعد اسبوعين، وكنت وقتها مديرا لإذاعة الرياض، وعندما كثرت علي الضغوط والاستفسارات مما لا يمكن البوح به آنذاك، لم أجد سوى أن أدخل على الوزير الذي كان مرابطا أيضا وأشكو إليه فقال: يابني كل من سألك قل له: اتصل بالوزير، وانصرف لتسيير عملك بما يخدم العمل، وكانت تلك الأيام أياماً قاسية، لكن حسن إدارته مما يسَّر سير العمل، ووقوفه إلى جانب العاملين مما هون المرابطة والإرهاق.طلب مني مرة وهو خارج من مكتبه أن اقرأ قصة كتبها بعنوان (في دوار الجامعة) وهي تتحدث عن حادث سير في دوار الجامعة عندما كان مديرا فبقيت أسبوعا لم آخذ القصة من مكتبه، فكيف سأبدي رأياً في إنتاج وزير، قد يجد غضاضة أن تأتي الملحوظات من موظف ولقيته، بعد أسبوع فقال: هل قرأت القصة، فقلت سأقرؤها، وقرأتها، ومما أبديته من ملحوظات أنها في عمومها تجرّم رجل الأمن الذي باشر الحادثة، فلم يغضب بل قابل ذلك بابتسامة.وبعد أن خرج من الوزارة ازداد قرباً من موظفي الوزارة، بل إن بعضهم إذا عرف بوجوده في الرياض سعى للسلام عليه، وتوثقت صلته مع المثقفين منهم¡ أرسلت له أكثر من مرة بطلب مساعدة أيتام وذوي حاجات فساعدهم، وكتبت عنه مرة عندما كُرّم مقالا بعنوان (محمد عبده إكرام وإعلام) ويبدو أنه لم يطلع على المقال في حينه فاتصل بعد فترة وقال لي كلاماً لن اكتبه لأنه ثناء عليّ.أكاد أجمع صفات محمد عبده في أنه الإنسان رجل البر والإحسان والتقوى الصادقة (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)، وقد قدم إلى ربه، والأمل أن يخلد أولاده وأحبابه ذكره بمركز ثقافي خيري فالذكر للإنسان عمر ثان. رحمه الله.