د. عبد العزيز السبيل - رحيل الكبار
لم يكن من السھل تصور ھذا الرحيل المفاجئ لرمز من رموز الوطن، وعلم من
أعلام الثقافة. محمد عبده يماني رجل أسر الكثيرين بنبله وأخلاقه وتعامله. وإذا
كان كثيرون يرتبطون بالمنصب الإداري، ويعيشون خلاله مجدا وقتيا، فإن الراحل
الكبير ظل ذا حضور أكبر وتقدير أعمق والتفاف حوله أقوى. ترك الوزارة قبل ما
يقرب من ثلاثة عقود، لكنه ظل داخل المجتمع بكافة مستوياته ذا حظوة جليلة
ومكانة كبيرة.
ليس من السھل الإحاطة بجوانب حياته، التي غالبا ما كانت ذات حضور قيادي،
وتأثير إداري، كانت المحطة الأولى الأبرز وكالة وزارة المعارف، ثم بعد أشھر
فقط تسنم قيادة جامعة الملك عبدالعزيز. وقتها كنت من بين طلبة الجامعة الذين
أنصتوا له ذات يوم وھو يتحدث عن الطموح والرؤية المستقبلية الأكاديمية.
شعرت وزملائي وقتھا بتفاؤل كبير ومستقبل أكثر إشراقا.
سنوات معدودة، وإذا بھ، وھو في منتصف عقده الرابع، يقود وزارة تصل إلى كل
الناس وتؤثر في كافة طبقات المجتمع، خصوصا في ذلك الزمن. استمعت إليه
ثانية في موسم الحج ( 1397 هـ ) مع عدد محدود من المتعاونين الملتحقين حديثا
بالوزارة، فأكبرت فيه إنصاته للصغار وحواره الكبير معھم .
في وزارة الإعلام، نجح في بلورة مفھوم إعلامي جديد على المستوى المحلي.
تحقق ذلك برؤية علمية، وجرأة عملية، ويقين بأن لكل زمن أساليبه. التزام
بالثوابت وانطلاق إلى عالم إعلامي أرحب. كان الطموح أكبر، لكنه عاش معاناة
الرؤى الاجتماعية التي لا تحظى بسعة أفق. عايش باقتدار وألم (ومعه الوزير
خوجة) مرحلة حرجة جدا من تاريخ الإعلام المحلي، ونقطة تحول كبرى في
تاريخ الوطن، وذلك في أعقاب أحداث الحرم المكي (محرم عام أربعمائة وألف).
ومعها حدث تحول جذري في مسيرة الإعلام. وھو أمر خارج إرادته بالتأكيد. غير
أنھ تحول لم تنجح كافة التحليلات في تفسيره، سوى القلق الكبير التي كانت تعيشه
الدوائر الرسمية العليا في ظل أحداث جسام.
وحين غادر الوزارة بعد ثمان سنوات، أصبح أكثر حضورا، وأقوى تأثيرا، وأغزر
منحا، وأجزل عطاء. كان رحمھ الله نموذجا للأبوة والحرص والمتابعة والالتزام
والمساھمة الفعالة في جوانب اجتماعية وفكرية وثقافية كبيرة ومتعددة. داخل
الوطن وخارجه. وكأن لسان حاله يردد:
» أقسم جسمي في جسوم كثيرة «
فئات المجتمع على اختلاف مستوياتھا واتجاهاتها تشعر جميعا أنه لها الأقرب. لقد
كان رفيق الضعفاء، صديق العلماء، جليس الفضلاء. يتحامل على نفسه كثيرا
بحضور المناسبات الثقافية والاجتماعية، ليشارك في الأفراح ويعزي في الأتراح،
ويساھم برؤاه الثاقبة، عبر كلمات وخطب تنصت لھا الآذان، وتعيها الأفئدة،
وينجذب لها السامعون.
له رؤيته الفكرية والدينية، ينافح عنها ويعمل لتأصيلها، في إطار من احترام
صاحب الرؤية المغايرة، والتسامح مع المختلف، وعدم الالتفات كثيرا إلى ذي
الأفق الضيق. نشر عشرات الكتب، سنامها ما قدمه من كتب تربو على العشرة
حول المصطفى الكريم (عليه أفضل الصلاة وأجل التسليم)، وآل بيته الطاھرين
(رضوان الله عليھم). يأتي ذلك رسالة توجيه وتأكيد على واجب ديني كبير، أغفله
البعض، وغالى فيه آخرون، فحاول تقديمه في إطار من الوسطية والاعتدال .
وإذا كانت كتبه العلمية ذات ارتباط بتخصصه الأكاديمي، فإنه واحد من المھتمين
وكانت القضية الفلسطينية ،« فتاة من حائل » بالسرد الأدبي. بدأ ذلك براوية
حاضرة فيها، غير أنه أفرد لھذه القضية العربية الإسلامية عملا بكامله حمل
جراح » و « اليد السفلى » ونشر من كتب السرد .« مشرد بلا خطيئة » عنوان
فتى (صبي) » وأصدر في اللغة الإنجليزية كتابين .« امرأة في الظلال » و « البحر
وتحمل ملامح من حياتھ في « مثلث بيرشيبا » تحضر فيه عوالم مكة و « من مكة
أمريكا. وخلال الأسابيع الماضية كانت اليمامة تنشر له قصصا قصيرة، تعتمد على
الأجواء الشعبية المكية في زمن سابق. وھو الزمن الذي عاشه الفقيد وارتبط به
وظل مھموما بترسيخه في عوالم السرد .
ومن منطلق اھتماماته الأدبية عمل مع زملائه في الجامعة على تأسيس سنة
أكاديمية تمثلت في عقد المؤتمر الأول للأدباء السعوديين، الذي كان حدثا أدبيا
كبيرا. ويتواصل ھذا المؤتمر ويشرف في دورته الثالثة بتكريم الدكتور محمد عبده
يماني اعترافا له بفضل التأسيس .
محمد عبده يماني رجل إيمان ويقين وإبداع، كانت نفسه كبيرة، فأتعب في مرادها
جسده. تغمده الله بواسع رحمته.