وجيه حجازي نادر .. لا يتكرر كثيرا
وجيه حجازي نادر .. لا يتكرر كثيرا
عبد العزيز محمد قاسم
لا أعرف أحدا من وجهاء الحجاز في مرتبته الاجتماعية؛ كانت لديه هذه الهمة النبيلة، وحظي بهذه المكانة في قلوب الأسر الفقيرة والمتوسطة بالخصوص كمحمد عبده يمانيقبل أكثر من خمس سنوات، وأنا بأدغال الحبشة هناك، مررت بقرية مسلمة فقيرة جداً، وقد تنصّر نصفها، بسبب النشاط التبشيري هناك، ولفت نظري (مجمع مدارس) على درجة من الرقي والحداثة، لا تتساوق وحال القرية الفقيرة، ووقتما دلفنا إليه، فوجئت بلافتة تشير إلى أنه (مدرسة بنات) لتحفيظ القرآن الكريم، وأروني البناء القديم المتهالك، ثم فصولاَ حديثة، تقرأ فيها زهرات صغيرات من أطفال تلك القرية القرآن الكريم. سألت: "من بنى لكم هذه؟" فأجابوني: "إنه (الشيخ) محمد عبده يماني، جاءنا قبل سنتين ورأى أحوالنا، فأمر ببناء هذه المدرسة".أكبرت معاليه، وزاد إجلالاً في عيني، وقلت بنفسي وقتها: "بهذا العمر، وجدوله المليء بالأعمال المزدحمة، لم ينس الدعوة إلى الله، وفي هذه الأدغال البعيدة التي تصعب على من هو في سني، فكيف وهو في عقده السادس!!".سبب تذكري لمعاليه – يرحمه الله - أنني طالعت في الإنترنت تغريدة لتلميذي الواعد أيمن بادحمان، يذكّر بالعمل (اليوتيوبي) -شرفت بتوجيهه لذلك إبّان عزاء معاليه- ونشره بعنوان (وأغمد السيف اليماني)، حيث صوّر مع زميله عاصم الغامدي مع شخصيات حضرت عزاء ذلك الوجيه الحجازي الفريد، الذي أحبته بيوتات الحجاز بكل تنوعها، وتربع في قلوبنا جميعاً، حيث كان لا يتأخر أبداً عن الواجبات الاجتماعية بحضور الأفراح أو التعازي لكل الطبقات، ومواساة الفقراء والمرضى، ولا أعرف أحداً من وجهاء الحجاز في مرتبته الاجتماعية؛ كانت لديه هذه الهمة النبيلة، والدأب المتواصل في التواصل الاجتماعي، وحظي بهذه المكانة في قلوب الأسر الفقيرة والمتوسطة بالخصوص كمحمد عبده يماني.أتذكر سروري، وأنا أطالع صورة معالي الشيخ صالح بن حميد ضمن مجموعة المعزّين الذين حضروا صلاة الجنازة والدفن لفقيدنا الكبير، فقد كان ذلك الحضور لمعاليه وما صرّح به؛ درساً بليغاً لبعض القلة الذين شمتوا بموت الدكتور يماني؛ وأفرزوا كتابات -في بعض مواقع النت- تنضح عفناً، وهم فرحون بموت داعية الصوفية (كذا). لم يكتف الشيخ ابن حميد – وهو أحد أبرز قياداتنا الشرعية الملهمة التي نفخر بها في بلادنا- بالحضور؛ بل صرّح لوسائل الإعلام قائلاً:
"أسأل الله سبحانه وتعالى أن يتغمّد الفقيد بواسع رحمته، وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان، وأن يعوّض المسلمين خيرًا، وأن يعوّض البلاد؛ فهو رجل من رجالات البلاد المعروفين له آثاره وبصماته في كل المواقع التي شغلها، سواءً في الجامعة أو في التعليم العالي أو في الإعلام، فقد كان كاتبًا وكان مبدعًا، فضلاً عن نشاطه في الجمعيات الخيرية والنشاط الخيري، واهتمامه بهذه الأمور واهتمامه بالقرآن الكريم، ونسأل الله أن يجعل هذه الأعمال في ميزان حسناته وأن يعوض المسلمين خيرًا وأنّ يخلفه في أهله".كان -يرحمه الله- لديه مكانة وقبول عند كثير من الدعاة المحليين، وأحبوا فيه صدقه وتدينه ونفرته لعمل الخير والدعوة لله، حتى أن الشيخ الصديق علي بن حمزة العمري، أدى فريضة حج ذاك العام عن الدكتور يماني، وقال عبر صفحته في الفيس بوك: "سأنوي بإذن الله الحج هذا العام عن فقيد القرآن الدكتور محمد عبده يماني- رحمه الله- فقد زرته مرات ومرات ما كان في واحد منها شيء للدنيا، إنما للشفاعة في شباب يحتاجون ومؤسسات تدعو للخير".قدم لي كتابي عن أستاذي الراحل عبدالقادر طاش، وأتذكر أنني هاتفته في مكتبه، وطلب إرسال نسخة مصورة من الكتاب، ولم تمض أيام قلائل إلا وأكرمني بكتابة تلك المقدمة، ودعا لي كثيراً، وأكبر العمل الذي قمت به.كنت ألتقي معاليه- يرحمه الله - في مناسبات اجتماعية عديدة، في ثلوثية (الطيب) واثنينية (الخوجة)، وآخر ما التقيت معاليه، عندما أدركته وهو يغادر احتفالية رجل الأعمال أحمد فتيحي بوزير العمل، مهمّاً بركوب السيارة التي تقّله، وبجانبه رفيق عمره معالي وزير الإعلام الدكتور عبدالعزيز خوجة، وبادرته: "معالي الدكتور، وعدتني بالظهور معي في (البيان التالي)؛ فأوف لي الوعد"، فقد سبق له أن وعدني بالحديث معي عن (الآثار الإسلامية) والموقف منها، فأجابني بلهجته الحجازية الآسرة مبتسماً: "والله أنا أخاف منك يا عبدالعزيز تورطني". فأجبته: "أبداً، لا ورطة ولا هم يحزنون؛ بل مناقشة راقية للموضوع بما تحبّ"، فودعني بابتسامته ووجهه المضيء بالاتصال به في مكتبه كي يجد لي فسحة من وقته الذي كرسه في التواصل الاجتماعي.مضى معاليه -يرحمه الله- ودعوات مئات الآلاف من الفقراء تلهج له، كان وجيهاً حجازياً من الطبقة النادرة التي لا تتكرركثيراً.
الوطن أون لاين 12-10-2012