خلف الحربي - تأملات خارج مجلس عزاء
ھو الموت، كما رآه طرفة بن العبد قبل 15 قرنا.. قرصان رفيع الذوق: (يعتام الكرام ويصطفي)!، يطوف في الأزقة والحارات بحثا عن أغلى وأعز وأندر الناس، ولا يقبل بما ھو أقل من: (عقيلة مال الفاحش المتشدد)!، تمر به الوجوه الكثيرة أفرادا وجماعات فلا يكترث بھا، يعرف أنھم لن يذھبوا بعيدا، ولا يستحقون أن يحث إليھم الخطى ما داموا سوف يأتون اليه بأقدامھم مھما طال بھم الزمان، لذا يمضي في طريقه بحثا عن وجوه تضيء الأمكنة وأصوات تبدد وحشة الأزمنة.. كي يصنع فجيعته المؤلمة التي تخلع القلوب من أماكنھا .! قد لا تزيد عدد المرات التي التقيت فيهالدكتور محمد عبده يماني على خمس أو ست مرات، إلا أنني في كل مرة منها كنت أزداد قناعة بأنني ألتقي برمز من رموز التسامح ورائد من رواد التنوير في بلادي، رجل كبير بكل ما تعنيه الكلمة، يدرك أن التواضع لن يزيده إلا رفعة، ويعلم أن البساطة في كل شيء ھي الثوب الذي يليق بالمثقف الحقيقي . رجل كبير لم تغيره المناصب، ولم تشغله أعباء الحياة عن الالتزام بقضايا وطنه ومجتمعه، وجه باسم بشوش، يملك قدرة عجيبة على الاستماع لكل من يتحدث إليه، وحين يجيء دوره في الحديث يصل إلى لب الموضوع مباشرة بكل ھدوء وأناقة، صورة نادرة للمفكر الإسلامي الذي لا يتجھم ولا يدعي أنه وصل إلى الحقيقة الكاملة . محمد عبده يماني واحد من آلاف الشخصيات العظيمة التي قدمتها مكة المكرمة حماها الله لھذا الوطن، مشعل من مشاعل أم القرى التي لم يغادر ضياؤھا ھذا الكون في يوم من الأيام، يسير بين الناس ببطء بعد أن أثقلت قدميه السنون والتجارب، يعرفھم واحدا واحدا، يفھم تقلبات أمزجتھم، يقرأ ما تحاول أن تخفيه عيونھم القلقلة، يتحاور معھم، يفكر معھم بصوت مسموع، ولا يفقد الأمل أبدا في الوصول إلى غد أفضل . ھو الشيخ الوحيد الذي اختار أن ينتمي إلى فئة الشباب، يشارك في أعمالھم التطوعية، لا يفرض وصايته عليھم، يشارك في تنفيذ أفكارھم الطموحة دون أن يفترض أنه يملك أفكارا أفضل منھم، يعرف قدره الكبير في أوساط النخبة، ولكنه يؤمن أن الإنسان كلما ازداد بساطة ارتفع قدره. نسأل الله العلي القدير في ھذه الأيام المباركة أن يتغمد محمد عبده يماني بوافر رحمته ويسكنه فسيح جناته.

الدكتور محمد عبده يماني .. كريم الشمائل عظيم المروءات

المهندس أحمد عبد الوهاب آشي
رحم الله توأم روحي أبا ياسر ، لقد كنت على موعد معه يوم الثاني من شهر ذي الحجة للصعود إلى مكة المكرمة لتقديم واجب العزاء في السادن العزيز المرحوم الشيخ عبدالعزيز كدأبه في مشاركة الناس أفراحهم وأتراحهم .. وكان هذا ديدنه دائماً مهما كان في ذلك الأمر من إرهاق ومشقة عليه وتراه مسروراً وفرحاً فيما يقوم به وكنت أرافقه في كثير من الأحيان هذا التواصل والمودة مع الناس كبيرهم وصغيرهم غنيهم وفقيرهم وجيههم وبسيطهم ولكنه سبقنا إلى دار الحق وتركنا في هذه الدنيا الغرور.
كان رحمه الله يفشي المحبة والسلام بين الجميع لا تراه إلا مبتسماً بذلك الوجه النوراني، عف اللسان، بذلك التواضع والأدب الجم مع كل من يقابله من الناس، ينفرد بهذه الخصوصية حتى مع الأطفال ويشعر كل من يقابله بأنه يخصه وحده بالاهتمام وهذه ميزة ينفرد بها رحمه الله وهو من الذين يسارعون في الخيرات وينفقون عن سعة, يجبر كسر هذا ويفرح قلب هذا فهو أمة في رجل وركن من أركان المجتمع المكي بل ركن من أركان الوطن وكان رحمه الله يحثني دائماً ويشركني في فعل الخير وكم فرَّج بعد توفيق الله كربة محتاج وهو لا يفتأ مدافعاً منافحاً ومناصراً لكل ذي مظلمة وكذلك اصلاح ذات البين.
أيها الشيخ الجليل الفارس النبيل، إهنأ في مرقدك الأخير تتنزل عليك شآبيب رحمه الله.. وأنا لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنى عليك من غمرته بفضلك وإحسانك وأزلت بعد الله ضيقته وما اتفق اثنان أو أكثر كما اتفقوا على محبتك ولا نستطيع أن نعدد مآثرك وحسناتك في كل وجوه الحياة، جزاك الله خيراً لما قدمته لأمتك ووطنك.رحم الله الشاعر السفير حسين فطاني عندما قال في قصيدته يا قبلة المجد:

وعز في الناس من عزّت بلادهم لما أشادوا لها أو شيدوا فيهــــــا

وكما قال والدي المرحوم عبدالوهاب آشي في قصيدته:
ما مات من خلدت صحائف مجده ولسعيه الوطن العزيز مصــــدق

وهذا الإمام الشافعي رحمه الله يقول:
الناس للنّاس ما دام الوفاء بــــــهم والعسر واليسر أوقات وساعـــات
وأكرم الناس من بين الورى رجل تقضى على يده للنّاس حاجـــــات
قد مات أقوام وما ماتت فضـائلهم وعاش قوم وهم في الناس أموات

ويا حبذا أن يخلد اسم الفقيد الجليل بمعلم بارز في مكة المكرمة وغيرها من مدن المملكة.. رحم الله فقيد الأمة، فهو حيّ بمآثره ومكارمه، وألهمنا جميعاً الصبر والسلوان وبارك له في أبنائه البررة.وأنا أدعو جميع محبيه والعارفين بفضله وغيرهم أن يتأسّوا ويقتدوا بأخلاقه ويسيروا على نهجه ومنهاجه فهو نعم المربي الإسلامي ونعم العبد إنه أواب بإذنه تعالى وجعله من الكرام البررة إنه سميع مجيب.و"إنا لله وإنا إليه راجعون".