ذكريات عبرت - عبدالله فدعق
محمد عبده يماني استوقفني كثيرا أن الناس من مختلف الأطياف الفكرية، والمذاهب الدينية من الداخل والخارج اتحدت في الشعور بالحزن على فقدانه، لأنه كان قاسما مشتركا بين الكل يطلق أهل مكة المكرمة على من توفاه الله في أيام انشغالهم بأعمال الحج قولا قديما هو:" فلان راح فَرق عُملة"، وذلك بسبب أن الناس لا تسمع بوفاته إلا متأخرا، ومن سمع قد لا يتيسر له التعزية فيه. إلا أن رحيل معالي الدكتور محمد عبده بن عبدالله يماني ـ رحمه الله ـ طغى على كل خبر، ولا غرابة، فالراحل منذ نشأته إلى مماته، وهو ينمي أرصدته، ويزيد من استثماراته عند خالقه. شخصيا رغم حزني على فقد الدكتور، إلا أني أغبطه على خاتمته، والسبب هو الرصيد الذي أجملته، والاستثمار الذي تركت تفصيله، ولذا لن أرثيه حزنا، ولكن سأتحدث عنه ببعض "ذكريات عبرت أفق خيالي"، وبما يمكن أن يشبه ما تعارف عليه أهل الاختصاص، وسموه: بـ "الإخوانيات"، ولو جاز لي لسميتها بالأبويات. وـ للعلم ـ (الإخوانيات) نوع قديم من أنواع النثر والشعر، ازدهر في العصر العباسي، وليست له مواضيع محددة.تعرفت على الفقيد في الجلسات العلمية بمكة المكرمة، وتوطدت العلاقة به في السنوات الأخيرة، وشاركت وشهدت (بنفسي) على ما تضيق به مساحة المقال؛ الدكتور ينصت كثيرا لمن يكلمه، ويقتنع بحديثه، وإن ظهر له خلاف ما اقتنع به ولو متأخرا غير رأيه. لا يحب أن يقول لمن يستشيره "لا"، ويحرص بكل ما يملك من خبرة على بث الطمأنينة في قلوب من حوله. مرة قابله شخص وأنا معه، وطلب منه مسألة تبدو غير منطقية، وبعد أن طمأنه الدكتور، قلت له يا معالي الدكتور هل طلبه معقول؟ فقال لي: "مهمتنا أن نبث الطمأنينة في قلوب الناس، وعلى الله وحده قضاء الحوائج". يسعى للصلح، ويفوض غيره لذلك، وكم مرة فوضني مع من أتعبه، ويقول: " لا بد للحصول على الأجر أن تتحمل التعب في ذلك".مما شدني في تعزية الناس بفقده أن الكل كان يعزي، ويتقبل العزاء فيه، والذي استوقفني كثيرا أن الناس من مختلف الأطياف الفكرية، والمذاهب الدينية من الداخل والخارج اتحدت في الشعور بالحزن على فقدانه، لأنه كان قاسما مشتركا بين الكل. ومن الأشياء الغريبة أن مجموعة كبيرة من الناس حظوا باتصال منه صبيحة يوم دخوله للمستشفى، وكأنه أراد أن يودعهم الوداع الأخير. له قصص جميلة مع آل بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكم مرة طلب مني أصحاب الحوائج منهم، وأرسل لي متفقدا ومعينا، خاصة بعد أن كلفت رسميا بنظارتهم. كنت أعجب من حرصه البالغ على مراجعة من يثق فيهم لبعض مسودات مؤلفاته، أو فقرات حلقاته، وكان يقول: "من الإحسان أن تكرم من يقرأ لك، ومن تبرع بوقته لمشاهدتك". الدكتور بطبعه اجتماعي، وانعكس ذلك عليه في دعوة الناس لرحلات مبرمجة للمدينة المنورة، مرورا بمحافظة بدر، وخلالها كان يحدثهم عن مراحل دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المكية ودور السيد خديجة، والمرحلة المدنية ودور السيدة فاطمة رضي الله عنهما. وكان يحب حضور الجلسات العلمية والثقافية المختلفة، ولا يمكن أن أنسى تردده بدون موعد لدرسي العلمي، وإسعاده الحضور بتعقيباته العلمية الرائعة.انتقال معالي الدكتور محمد عبده يماني إلى الرفيق الأعلى ترك (فراغا كبيرا جدا) في الأقارب والأباعد، والعزاء أنه ترك خلفا صالحا ـ أخا نبيلا، وأختا حنونا، وزوجا صبورا، وأبناء وبنات بررة، وأصهارا فضلاء ـ سيحققون له بأمر الله أمانيه العريضة، ووعوده الطيبة لمن أحبهم وأحبوه. اللهم ارحمه، وأخلفه على الناس بخير.

الدكتور محمد عبده يماني .. كريم الشمائل عظيم المروءات

المهندس أحمد عبد الوهاب آشي
رحم الله توأم روحي أبا ياسر ، لقد كنت على موعد معه يوم الثاني من شهر ذي الحجة للصعود إلى مكة المكرمة لتقديم واجب العزاء في السادن العزيز المرحوم الشيخ عبدالعزيز كدأبه في مشاركة الناس أفراحهم وأتراحهم .. وكان هذا ديدنه دائماً مهما كان في ذلك الأمر من إرهاق ومشقة عليه وتراه مسروراً وفرحاً فيما يقوم به وكنت أرافقه في كثير من الأحيان هذا التواصل والمودة مع الناس كبيرهم وصغيرهم غنيهم وفقيرهم وجيههم وبسيطهم ولكنه سبقنا إلى دار الحق وتركنا في هذه الدنيا الغرور.
كان رحمه الله يفشي المحبة والسلام بين الجميع لا تراه إلا مبتسماً بذلك الوجه النوراني، عف اللسان، بذلك التواضع والأدب الجم مع كل من يقابله من الناس، ينفرد بهذه الخصوصية حتى مع الأطفال ويشعر كل من يقابله بأنه يخصه وحده بالاهتمام وهذه ميزة ينفرد بها رحمه الله وهو من الذين يسارعون في الخيرات وينفقون عن سعة, يجبر كسر هذا ويفرح قلب هذا فهو أمة في رجل وركن من أركان المجتمع المكي بل ركن من أركان الوطن وكان رحمه الله يحثني دائماً ويشركني في فعل الخير وكم فرَّج بعد توفيق الله كربة محتاج وهو لا يفتأ مدافعاً منافحاً ومناصراً لكل ذي مظلمة وكذلك اصلاح ذات البين.
أيها الشيخ الجليل الفارس النبيل، إهنأ في مرقدك الأخير تتنزل عليك شآبيب رحمه الله.. وأنا لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنى عليك من غمرته بفضلك وإحسانك وأزلت بعد الله ضيقته وما اتفق اثنان أو أكثر كما اتفقوا على محبتك ولا نستطيع أن نعدد مآثرك وحسناتك في كل وجوه الحياة، جزاك الله خيراً لما قدمته لأمتك ووطنك.رحم الله الشاعر السفير حسين فطاني عندما قال في قصيدته يا قبلة المجد:

وعز في الناس من عزّت بلادهم لما أشادوا لها أو شيدوا فيهــــــا

وكما قال والدي المرحوم عبدالوهاب آشي في قصيدته:
ما مات من خلدت صحائف مجده ولسعيه الوطن العزيز مصــــدق

وهذا الإمام الشافعي رحمه الله يقول:
الناس للنّاس ما دام الوفاء بــــــهم والعسر واليسر أوقات وساعـــات
وأكرم الناس من بين الورى رجل تقضى على يده للنّاس حاجـــــات
قد مات أقوام وما ماتت فضـائلهم وعاش قوم وهم في الناس أموات

ويا حبذا أن يخلد اسم الفقيد الجليل بمعلم بارز في مكة المكرمة وغيرها من مدن المملكة.. رحم الله فقيد الأمة، فهو حيّ بمآثره ومكارمه، وألهمنا جميعاً الصبر والسلوان وبارك له في أبنائه البررة.وأنا أدعو جميع محبيه والعارفين بفضله وغيرهم أن يتأسّوا ويقتدوا بأخلاقه ويسيروا على نهجه ومنهاجه فهو نعم المربي الإسلامي ونعم العبد إنه أواب بإذنه تعالى وجعله من الكرام البررة إنه سميع مجيب.و"إنا لله وإنا إليه راجعون".