حمود أبو طالب - فقدناك أيها النبيل
فقدناك أيها النبيل
شخص كالدكتور محمد عبده يماني ــ رحمه الله، من الطبيعي أن يكون له مخزون من الانطباعات والذكريات والمواقف والآراء لدى كثير من الناس، قد تختلف قليلا أو كثيرا عند الحديث عنه كمسؤول في أكثر من موقع، لكنها حتما تتشابه وتتفق وتأتلف حين الحديث عنه كإنسان، بعيدا عن مقتضيات وملابسات المسؤولية الرسمية.. قد لا يحمل البعض انطباعا جيدا عنه كمسؤول نتيجة موقف أو قرار لم يكن كما يريدونه لأنهم لا يعرفون أسبابه ودواعيه وحيثياته، لكن من الصعب أن يختلف عليه اثنان إذا جاء ذكره بمنأى عن الوظيفة والمسؤولية.. السيرة الذاتية الرسمية للدكتور يماني موجودة الآن في كل وسيلة إعلامية كعرف إعلامي عند رحيل الشخصيات العامة، لكن سيرته الذاتية الإنسانية الخاصة لن يستطيع أحد أن يجزم بمعرفتها كاملة بكل تفاصيلها لسبب مهم هو أن لا أحد يعرف تماما ماذا كان يفعل الفقيد مع الآخرين في مجالات الإنسانية الواسعة بسبب حرصه الشديد على خصوصية وسرية تعامله مع كل شخص..
ليس باستطاعتي أن أتحدث عن الدكتور محمد عبده يماني من خلال مواقعه الرسمية لأني لم أعرفه جيدا إلا بعد أن تركها، لكني أحتفظ بكثير مما سمعته من الذين تعاملوا معه في تلك المواقع، وكله لا يخرج عن الإعجاب والثناء والتقدير والاحترام، نتيجة مواقف ليس بوسعي ضرب أمثلة عليها هنا.. وحتى الذي عرفته عنه مما هو معروف به وموثق له خلال تلك المرحلة، لا أظن أنه مناسب ذكره في معرض الحديث عنه الآن، لأنه لن يضيف جديدا لما يعرفه الجميع..كيف يمكن الحديث إذا عن فقيد كهذا؟؟بالنسبة لي، أدهشني الدكتور محمد عبده يماني حين تألق أكثر بعد مغادرته المناصب الرسمية، فقد عهدنا معظم المسؤولين الذين يغادرون المناصب البراقة العليا ينزوون في الظل ويخبو صوتهم ويتلاشى حضورهم، إما بسبب أزمة فقدان الكرسي، أو لأن لا شيء يجعلهم في دائرة الضوء غير المنصب.. لم أكتشف الدكتور يماني إلا بعد أن غادر آخر مناصبه كوزير للإعلام، وهو منصب قد يجعل أزمة الانزواء أشد على من يغادره.. وبدأت أعرفه أكثر من خلال حضوره المؤثر كمثقف ومفكر وعالم وأديب يتدفق إنتاجه دون توقف.. جذبني ثراؤه الفكري والحضور الطبيعي المؤثر الجميل لشخصيته.. أكبرت فيه عطاءه المتميز وإسهاماته النبيلة في مجالات كثيرة، داخل الوطن وخارجه.. أبهرني عزوفه عن الاشتراك مع المتزاحمين على الأضواء، رغم أن كثيرا منهم لا يستطيعون فعل القليل مما يفعله دون ضجيج.. هكذا اتخذ منزلته الكبيرة في نفسي قبل أن أعرفه، لتأتي الأيام بما يجعلني اليوم من أشد المتألمين عليه بعد أن عرفتني به عن قرب..
اللقاء الأول كان في مؤتمر الحوار الوطني في مكة المكرمة عام 1424هـ.. في معمعة التجاذبات الحادة كان صوته يأتي هادئا، متزنا، توفيقيا، مسالما، ذكيا، ومحيطا بما لا يدرك أهميته أكثر المشاركين.. أتاحت لي اللقاءات خارج قاعة الحوار الاقتراب منه لأكتشف بساطة الكبار وتواضع العظماء وأخلاق النبلاء.. انتهى المؤتمر وتفرق الجمع لكنه بقي حاضرا بقوة طاغية في ذاكرتي وذكرياتي خلال تلك الأيام.. وحين قررت أن أهاتفه ذات يوم لأعبر له عن رغبتي في لقائه للسلام عليه، بادرني هاشا باشا مرحبا ومستعدا لاستقبالي.. تحدثنا طويلا، وكان حديثه حديث الأب والأستاذ والعالم الخبير بشؤون الحياة، والناصح والمعلم، دون زهو أو تعالٍ أو إيحاء بأنه يلقنك خلاصة عمر حافل بالتجارب الهائلة.. وبعد ذلك اللقاء أكرمني حظي بلقاءات تكررت وتقاربت حتى أصبحت أتوق إليها وأحتاجها ولا أستطيع أن أؤجلها. عرفت خلالها أي إنسان استثنائي هذا الذي أتواجد في حضرته..
ما زالت كلماته قبل الأخيرة حاضرة في سمعي وهو يؤكد علي أن أوافيه بما يستجد في ما تبناه من عمل خيري جليل، وأن يستمر احتفاظي بسرية هذا العمل.. وما زالت كلماته الأخيرة قبل وفاته بليالٍ ثلاث وهو يعاتبني على تأخري في موافاته بالمعلومات التي طلبها.. وفي المساء الذي اكتملت فيه وأردت إسعاده بها، اكتمل عمره الذي انتهى زمنا ولن ينتهي عملا..
إلى رحمة الله أيها المحب لله..إلى جنات الخلد إن شاء الله يا من ضمدت جراحا، وخففت آلاما، وجبرت أحزانا.. إلى لقاء العظيم الكريم، يا من نهضت مروءتك من أجل كرامة موجوعة، ودمعة تستحي أن تسقط، وأنة تأنف أن يعلو صريرها..
إلى حيث تلقى جزاء ما قدمت من عمل صالح في هذه الدنيا التي صبرت فيها وعليها، وعلى الذين آذوك فيها وسموت عليهم بصبرك واحتسابك..