سعود عبد الحميد دهلوي - محمد عبده يماني والعزاء الذي لم يحضره
محمد عبده يماني والعزاء الذي لم يحضره وقفت اتلقى العزاء في رحيل رمز من رموز هذه الأمة الأوفياء .. واخ عزيز على نفسي لم تلده أمي ..رجل كانت سيرته تاريخ حافل بكل معاني العطاء الانساني والفكري .. رجل عرف بالوفاء والمروءة والتواصل مع الناس والعمل الجاد وحبه للخير .. كان يتحرك في كل اتجاه بوعي وصدق وأمانة .. حاسا بحاجة من حوله وكأنه والد لكل اسرة في هذه البلد .. يهتم بشئونهم قبل شأنه .. ويرعى مصالحهم قبل مصلحته .. ولهذا فقد كسب حب الناس وتقديرهم ودعاءهم فاندفعوا بتلك الأعداد الكبيرة وهم يودعونه الى مثواه الأخير. كنت اقف اتلقى العزاء متألما .. فهذا العزاء الوحيد الذي لم يحضره .. فقد كان يحرص على مواساة الصغير قبل الكبير ومشاركة الناس في مناسباتهم .. وتراه في كل عزاء من اوائل الحاضرين .. يشد على ايديهم في مصابهم .. ويطيب خواطرهم .. ويترحم على فقيدهم .. ويشاركهم في الصلاة عليه والدعاء له بالرحمة والغفران فلا ينصرف الا وقد ادخل السلوى الى نفوسهم وخفف من مصابهم .. ولكنه اليوم غائب عن هذا العزاء الكبير .. حاضر في نفوسنا وقلوبنا وتذكرت ذلك اليوم الذي ذهبت فيه لحضور دفن والد شاب فقير في مقبرة بعيدة لأجده رحمه الله واقفا تحت ذلك القيظ يواسي ذلك الشاب الذي لم يعرفه الا لماما وهكذا كان دأبه مع الجميع رحمه الله. لست ذو باع طويل في الكتابة مثل الآخرين الذين يمتهنون هذه الصنعة ولكن علاقتي بذلك الرجل الفذ دعتني ان ادلو بدلوي معهم فقد كانت علاقة اخوية مميزة امتدت لعقود عديدة منذ بداية تقلده لمنصبه وزيرا للاعلام وكنت يومها مندوبا لوزارة الاعلام في الديوان الملكي طوال العشر سنوات التي سبقت لقائي به وكنت قبل قدومه افكر في ترك ذلك العمل الا انه حرص على استمراري واقترح علي الذهاب الى البعثة التي كنت قد رشحت لها للدراسة في امريكا وقال لي : " بعد عودتك ان شاء الله يكتب الله لك ما فيه الخير " .. لم يشأ الله ان اتممم تلك البعثة وآثرت العودة الى المملكة ، ثم تقدمت برغبتي في ترك العمل .. الا انه رحمه الله وأخي الدكتور عبد العزيز خوجة حفظه الله ـ وكان يومها وكيلا للاعلام ـ رشحاني لادارة جهاز تلفزيون الخليج ، فكان ذلك . مرت الأيام .. وسعدت برفقته خلالها .. ولم اشعر انني اتعامل مع وزير .. وكانت تتكشف لي صفات هذا الرجل الانسان وقدرته على دفع الناس دفعا الى محبته والاقتراب منه .. فقد كان مدرسة في معاني الحب والوفاء .. ومعينا لا ينضب .. كان الكل يحرص على ان ينهل منه .. بل هو مدرسة فريدة من نوعها .. مدرسة تتعلم منها كل يوم منهجا خاصا في التعامل الأبوي وحب الخير والعطاء ومساعدة الآخرين والايثار .. ففي تلك الفترة شاء الله ان يذهب لاجراء جراحة في القلب في امريكا .. و في نفس الوقت توجهت الى المانيا لاجراء جراحة لزوجتي ..ولم اصدق انه في تلك الظروف الحرجة التي يمر بها وهو على فراش المرض يتصل بالأطباء المختصين في المملكة للمشورة في حالة زوجتي .. بل كان يتابعني يوميا .. الى ان عاد وعدنا الى المملكة بسلامة الله . كان رحمه الله رحيما واشد ما يكون رحمة على صغار الموظفين عندما يرتكبون بعض الأخطاء فقد كان يدافع عنهم ويتصدى لتبعات اخطاءهم ويتحملها ويحرص على ان لا يتضرر اي موظف . عندما ترك العمل الحكومي وجد الوقت الكافي للتفرغ للخير فبارك الله له في وقته واعانه بان سخر الله له اخا وصديقا ورفيق درب هو الأخ الشيخ صالح كامل الذي كانت تجمعه ايضا به صلة رحم وتضافرت جهودهما في الخير .. فشرق الرجل وغرب في كل مجالات العمل الانساني .. وكـأني به طائرا كان محبوسا في قفص فأُطلق منه فطار محلقا بالخير في كل اتجاه .. مسافرا الى ادغال القارات المختلفة ليواسي الأقليات المسلمة هنا وهناك بفضل الله .. ليطعم الجائع .. ويكسي العاري .. ويوصل الدواء .. ويوفد المدرسين لتعليمهم .. ويبني المساجد والمدارس وكأنه قد وجد ضالته فلزمها ولم يبرحها. بقيت في الرياض بعد تركه للوزارة .. واذا بالعلاقة بيني وبين الرجل تتوطد اكثر مما كانت عليه وهو على رأس العمل وكنت اتقرب منه ماشيا ولكنه كان يقترب مني مهرولا .. حريصا على استقطابي في هذه الأعمال الجليلة التي يقوم بها .. وكان يكرمني في القيام بالانابة عنه ببعض الأعمال الخيرية في مدينة الرياض التي لم يكن باستطاعته الوصول الى اصحابها .. فكان يكلفني بمتابعة هذه الحالات الانسانية وقضاء حاجتها .. ومن هنا بدأ ارتباطي به في جانب العمل الانساني . ولا انسى ذلك اليوم الذي تجسدت فيه ارقى معاني الانسانية يوم كلفني بزيارة اسرة كبيرة جميعهم من الأطفال الصغار تتكون من اربعة عشر فردا فجعوا بوفاة والدهم بعد ان تركهم دون عائل او قريب يلجأون اليه .. وكان والدهم قد اوصى قبيل وفاته بأن يرعاهم محمد عبده يماني وهو لا يعرفه .. عندما علم بذلك كلفني بزيارة هذه الأسرة والوقوف على حالها وتأمين احتياجاتها وواصلت الاشراف عليها بمتابعة منه .. ولكن لكبر عدد افراد الاسرة ولطبيعة اعمارهم الصغيرة فهم يتطلبون اشرافا مباشرا منه فآثر انتقالهم الى جدة بقربه ليكونوا تحت نظره ورعايته وظل يرعاهم منذ نعومة اظفارهم الى ان صاروا الآن رجالا ونساءا يعملون في مختلف المجالات بعد ان حرص على تعليمهم ونشأتهم النشأة الصالحة .. واستمر في متابعة احوالهم الى ان انتقل الى رحمة الله .. هذا غيض من فيض .. ولم استغرب تلك الاتصالات التي وردتني من مختلف ارجاء المعمورة من اسر لا نعرفها ولكن ربطته بهم مواقف شبيهة بذلك الموقف الانساني النبيل وحرصوا على الصلاة عليه في نفس الوقت الذي كان يصلى عليه في الحرم واصروا على ان يقيموا يوما للعزاء . شاء الله ان اترك العمل الحكومي .. فاذا به يحرص على دعوتي بأن اكون بجواره في اقرأ للعلاقات الانسانية .. واذهلني حجم العمل الانساني الذي يقوم به فهو قد انشأ مرافقا متخصصة لكل ذي حاجة .. فمرضى القلب لهم جمعية .. ومرضى السكر لهم جمعية ايضا .. وهناك جمعية لمرضى السرطان .. وهناك مكتب متخصص لرعاية المرضى من غير تلك الأمراض يوجه كل مريض اليها للاعتناء به وعلاجه ومواساته .. وكان يتولى متابعة حالة كل مريض بنفسه او يكلفني بذلك .. وهناك مكاتب متخصصة للمساعدات الاسلامية للمسلمين في مختلف ارجاء المعمورة .. واقسام لمساعدة الطلبة في التعليم .. ويشارك في مختلف اللجان الاجتماعية التي تعنى بمختلف احتياجات الناس في المجتمع .. ويستقبل يوميا في مكتبه ذوي الحاجات ويطلع على حاجاتهم .. ولو ترك لي المجال لذكر كل ما يقوم به ساحتاج الى مساحة اكثر من هذه العجالة لذكرها .. فالرجل لم يتردد يوما في قضاء حاجة لأحد مهما كان نوع حاجته .. حتى الأمور التي كان من الصعب تحقيقها يقوم عليها ويترك امر قضائها لله عز وجل .. وكانت تنقضي ولا نعلم كيف تنقضي .. فقد استثمر علاقاته الواسعة لدى المسؤولين في الدولة لخدمة الضعفاء والمساكين واطلاق المساجين من المعسرين وسداد ديونهم اذا كان سجنهم بسبب ديون ..وقد انابني عنه في القيام بالكثير من هذه الأعمال . كنت بجواره .. ولكنه لم يكتف بل اصر على ان تكون العلاقة بيني وبينه اقوى من ذلك .. فبينما كنا نجلس معا في دكة الأغوات بالمسجد النبوي الشريف مع والده الشيخ عبد الله يماني والعم عبد الله كامل رحمهما الله وأخي الدكتور عبد العزيز خوجة حفظه الله اقترب مني هامسا في اذني قائلا في لطف شديد : " نرغب في خطبة ابنتنا لمى لإبنكم عبد العزيز " ثم كانت صلة رحم انعم الله بها علينا جميعا بأحفاد من البنين والبنات اشتركنا معا في حبهم . في يوم العزاء وقفت متألما احاول اخفاء قطرات الدمع التي تنهمر من عيني بين الفينة والأخرى فأنا من الذين تبكي قلوبهم اكثر من عيونهم ولم ابك الا في موقفين سابقين عندما انتقلت الوالدة الى رحمة الله .. وعندما اغتيل الملك فيصل .. فقد كنت احد الحاضرين لحادثة اغتياله .. وأبكي اليوم هذا الرجل الانسان .. الأخ الذي لم تحمله امي ولم تلده .. ولكنه كان رفيق درب وصديق عمر .. وارتبطنا بأواصر رحم .. بكيت لأن مثله لا يعوض .. بكيت لأنني على يقين ان هناك آلاف الأسر التي يرعاها قد تيتمت وهي تبكيه اليوم مثلي. رحمك الله ابا ياسر .. فقد كنت بارا بوالديك ، ولم اشهد من يجاريك في البر بوالديه .. بل وكل من كان في مقام والديك .. وكنت بارا بمعلميك .. وكنت حنونا عطوفا على الأطفال الذين رأيتهم يبكون قبل الكبار .. واسأل الله ان يشد من ازر ام ياسر .. تلك المرأة الفاضلة التي وقفت معك في ذلك المشوار الطويل المليء بالمآثر الخالدة .. تشد من ازرك .. وتقوي من عزيمتك .. فنسأل الله ان يجزيها خيرا على ما قدمت .. وان يشد من ازرها في الأيام القادمة .. وان يحفظها متمتعة بموفور الصحة والعافية .. رحمك الله رحمة واسعة وانزلك منزلة الصديقين والشهداء .. فقد كنت مجاهدا ومكافحا في سبيل الله والدعوة الى دينة بالكلمة الطيبة .. وان يجعل رسالتك التي بثثتها في سلسلة كتب : " علموا اولادكم " منارا ونبراسا يضيء الطريق للناشئة على مر العصور .. تغمدك الله برحمته رحمة واسعة ومغفرة ورضوانا .. واسكنك فسيح جناته .. وخلفك خيرا في اهلك وولدك وجعل ما قدمته من خير وما انفقته صدقة جارية .. وان يجعل في الأبناء ياسر وعبد الله وعبد العزيز وبناتك فاطمة وغالية وسارة امتدادا لمسيرتك الخيرة التي حملتها على عاتقك طوال حياتك .. وانا على يقين بأنك زرعت فيهم نفس تلك المباديء الخيرة .. وإني أرى ثمارها قد بدأت طلائعها فيهم جميعا بإذن الله .. وداعا ايها الأخ الحبيب .. والصديق الصدوق .. والمحب العطوف على الفقراء والمحتاجين .

الدكتور محمد عبده يماني .. كريم الشمائل عظيم المروءات

المهندس أحمد عبد الوهاب آشي
رحم الله توأم روحي أبا ياسر ، لقد كنت على موعد معه يوم الثاني من شهر ذي الحجة للصعود إلى مكة المكرمة لتقديم واجب العزاء في السادن العزيز المرحوم الشيخ عبدالعزيز كدأبه في مشاركة الناس أفراحهم وأتراحهم .. وكان هذا ديدنه دائماً مهما كان في ذلك الأمر من إرهاق ومشقة عليه وتراه مسروراً وفرحاً فيما يقوم به وكنت أرافقه في كثير من الأحيان هذا التواصل والمودة مع الناس كبيرهم وصغيرهم غنيهم وفقيرهم وجيههم وبسيطهم ولكنه سبقنا إلى دار الحق وتركنا في هذه الدنيا الغرور.
كان رحمه الله يفشي المحبة والسلام بين الجميع لا تراه إلا مبتسماً بذلك الوجه النوراني، عف اللسان، بذلك التواضع والأدب الجم مع كل من يقابله من الناس، ينفرد بهذه الخصوصية حتى مع الأطفال ويشعر كل من يقابله بأنه يخصه وحده بالاهتمام وهذه ميزة ينفرد بها رحمه الله وهو من الذين يسارعون في الخيرات وينفقون عن سعة, يجبر كسر هذا ويفرح قلب هذا فهو أمة في رجل وركن من أركان المجتمع المكي بل ركن من أركان الوطن وكان رحمه الله يحثني دائماً ويشركني في فعل الخير وكم فرَّج بعد توفيق الله كربة محتاج وهو لا يفتأ مدافعاً منافحاً ومناصراً لكل ذي مظلمة وكذلك اصلاح ذات البين.
أيها الشيخ الجليل الفارس النبيل، إهنأ في مرقدك الأخير تتنزل عليك شآبيب رحمه الله.. وأنا لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنى عليك من غمرته بفضلك وإحسانك وأزلت بعد الله ضيقته وما اتفق اثنان أو أكثر كما اتفقوا على محبتك ولا نستطيع أن نعدد مآثرك وحسناتك في كل وجوه الحياة، جزاك الله خيراً لما قدمته لأمتك ووطنك.رحم الله الشاعر السفير حسين فطاني عندما قال في قصيدته يا قبلة المجد:

وعز في الناس من عزّت بلادهم لما أشادوا لها أو شيدوا فيهــــــا

وكما قال والدي المرحوم عبدالوهاب آشي في قصيدته:
ما مات من خلدت صحائف مجده ولسعيه الوطن العزيز مصــــدق

وهذا الإمام الشافعي رحمه الله يقول:
الناس للنّاس ما دام الوفاء بــــــهم والعسر واليسر أوقات وساعـــات
وأكرم الناس من بين الورى رجل تقضى على يده للنّاس حاجـــــات
قد مات أقوام وما ماتت فضـائلهم وعاش قوم وهم في الناس أموات

ويا حبذا أن يخلد اسم الفقيد الجليل بمعلم بارز في مكة المكرمة وغيرها من مدن المملكة.. رحم الله فقيد الأمة، فهو حيّ بمآثره ومكارمه، وألهمنا جميعاً الصبر والسلوان وبارك له في أبنائه البررة.وأنا أدعو جميع محبيه والعارفين بفضله وغيرهم أن يتأسّوا ويقتدوا بأخلاقه ويسيروا على نهجه ومنهاجه فهو نعم المربي الإسلامي ونعم العبد إنه أواب بإذنه تعالى وجعله من الكرام البررة إنه سميع مجيب.و"إنا لله وإنا إليه راجعون".