شاركنا على صفحاتنا الاجتماعية

.    جير الكثيرون نشوب بعض الحروب والاشتباكات التي حدثت عام 86 الى المذنب هالي ولم يعفوه من الشؤم الذي اصاب المكوك تشالنجر الذي تحطم اثناء اقلاعه ولكن كل هذه جميعها تبقى مجرد افتراضات وتخرصات لا يمكن اقامة الدليل عليها وان بقيت في نفسي اشياء تؤيد الاعتقاد فيها او في جزء منها ولكن من الواجب ان نقف عند حدود مانعلم وفوق كل ذي علم عليم.

 وداعا هالي

فتاة ترقص الديسكو

محمد عبده يماني

البدع قرية من قرى الشمال في تبوك، ومن القرى التي تزخر بتاريخ عريق، وتضم مجموعة كبيرة من الآثار، وأهلها اقبلوا على تعليم أولادهم بصورة جعلتهم يشقون طريقهم نحو المستقبل، وكانت في أطراف القرية عائلة لديها شاب اسمه "عليوة”شاءت الظروف أن يحصل على منحة دراسية في فرنسا، وكانت مفاجأة سارة للجميع، ورغم تردده فقد كانوا جميعا يشجعونه على أمل أن يكون رجل من رجال القرية البارزين في المستقبل، وأن يتخرج طبيبا أو مهندسا، ونجحوا في ذلك، واقتنع إبن”البدع”وقرر التقدم للبعثة واستكمل الإجراءات.

    سافر عليوة ووصل إلى باريس ويلتقي بطالب قديم فيتعرف عليه ثم يدعوه لتناول العشاء معا فيقول له عليوة :
ـ أين سنذهب للعشاء!!هل لديك في المنزل!!
ـ لا ليس لدي منزل يكفي للعشاء، فأنا اسكن في مساكن الجامعة ولا يٌُسمح لنا بالطبخ فيها ولا حتى بدخول الغرباء
ـ إذا إلى أين ستدعوني للعشاء 
ـ هنا في الشانزلزيه في مطعم جميل إسمه (الفوكيت) 
ـ وهل تريدني أن أتعشى معك في وسط السوق 
ـ طبعا هذا مطعم راق وتعودنا ان نأكل فيه!
ـ لا.. لا يمكنني الدخول والأكل في مطعم أمام الناس، فأنا لم أتناول وجبة في الأسواق منذ أن عرفت نفسي ولهذا أنا لا استطيع أن اذهب معك إلى هذا المطعم.
ـ يا أخي انت الآن في باريس ولست في تبوك، والحياة هنا تختلف عن ما ألفته هناك، وإذا ظليت متمسك بهذه العادات والتقاليد فقد تموت في هذه المدينة من الجوع، لأن الناس هنا دائما تأكل في الشوارع أو تمر بأماكن بيع السندويتشات فتمسك بيدها الطعام وهي تسير.

ـ هذا ايضا لا يعجبني ولا أرتاح اليه وأشعر انني إذا دخلت إلى هذه المطاعم سأصاب بالإكتئاب وأنا أتناول طعامي مع الغرباء..إنك تدفعني إلى أمر لم أتعوده”يا صالح "

ـ اسمع يا عليوة أنا لا أطلب منك إلا أن تجرب فقط
 والتفت عليوة حوله وقال :
ـ فلنجرب وربنا يستر من عنده 
فأخذه ودخل به المطعم، وأخذ يجره إلى الداخل، وجلس معه على طاولة، ولكن عليوة أخذ ينظر حوله في دهشة ويقول :
ـ يا صالح هناك حريم في المطعم.. حريم يأكلن مع الرجال!! كيف تبيني آكل معهم ومعظمهن مفاسيخ، والهدوم التي عليهن هي أشباه الهدوم وليست هدوم.

ـ هون عليك.. سوف تتعود على هذه الهدوم.. فأنا قلت لك إننا في مكان آخر خارج بلادنا.. وعلينا أن نتعود وندرس ثم نعود إلى بلادنا.. وقد تفاجأ ان من يدرّسك في الجامعة هو استاذة.. ومن يجلس بجانبك هي طالبة من هؤلاء اللاتي سميتهن مفاسيخ.
ـ أقول يا صالح في الحقيقة أنا أفكر بالرجوع.. فلا أظنني أستطيع أن أتحمل هذا الوضع بأي شكل من الأشكال.. إنني متخوف ومرتبك من الإقدام على هذه التجربة!
ـ لا عليك.. دعنا الآن نطلب الطعام.. واسمح لي ان أطلب الطعام نيابة عنك.

    تناولا الطعام وشربا القهوة وخرجا يتمشيان في شارع الشانزلزيه وعليوة يمطر صالح بوابل من الأسئلة عن كل ما يراه هنا وهناك، وأوصله في النهاية إلى مقر سكنه وودعه إلى لقاء.

    وفي الأيام التالية كان دائما يتردد عليه ويسأل عنه ويعينه على التأقلم، ومضت السنة الأولى بسلام، وتعود عليوة على الحياة، ثم شعر بفرحة وهو يتعلم اللغة الفرنسية، وبدأ يجيدها، وشعر بعطف من الأساتذة الذين يدرّسونه وتفهمهم لظروفه وأحواله، وبعضهم كان يبتسم عندما يسمع عن آراء عليوة في المجتمع الفرنسي.

وتمضي سنوات الدراسة بعليوة، واجتاز مرحلة البكالوريوس، وحصل على الدرجة بتقدير جيد ولكن إدارة البعثات طلبت منه أن يكمل الماجستير، ففرح ووافق وبدأ مرحلة الدراسات العليا، وتأقلم مع الحياه، وانطلق يعيش ويتجول في كل زوايا باريس وخارج باريس، وأصبح له اصدقاء من مختلف الجنسيات ومن الفرنسيين من زملاء الدراسة وممن لقيهم في أثناء حياته في باريس، ولكنه ظل في أعماق نفسه يحافظ إلى حد ما على بعض رواسبه الإجتماعية وعادات ألف عليها.

ذات مساء خرج عليوة يتجول، واتجه إلى مكان سمع فيه أصوات غناء وطرب عربي، فدخل إليه وكان الجو من حوله غريب، لأنها المرة الأولى التي يدخل فيها إلى ناد ليلي، وحضر إليه الجرسون وسأله عن طلبه وعدد له أنواع المشروبات، فرد عليوة :
ـ انني لا اتناول الخمور، فأنا مسلم والخمر ممنوع علي.
ـ ياسيدي مثلك كثيرون قدموا عندنا في  أول الأمر ثم أصبحوا بعد الكوكاكولا والعصيرات يدمنون الخمر حتى الصباح، فالمسألة مسألة وقت فقط وسوف تتأقلم.
ـ لا.. لا إن شاء الله..فال الله ولا فالك 
يبتسم الجرسون وبعد دقائق تحضر سيدة للجلوس معه، وتسأله عن أحواله، وتطلب منه أن يشتري لها نبيذا، فيخبرها أنه لا يستطيع فتقول:
ـ لا بأس احضر لي أي مشروب تراه، فالذي يهمني هو الجلوس معك وأن تدفع ثمن الجلسة.
وبدأت الحديث معه ووجد حديثها شيقا، ومر الوقت دون أن يشعر حتى فوجيء بأن الساعة قد اقتربت من الثانية صباحا، فأستأذن وخرج ثم عاد إلى مسكنه.

في الأيام التالية ظلت تتنازعه مشاعر كبيرة بين العودة إلى النادي أو الهروب بعيدا عنه، وفي النهاية إنتصرت الرغبة، وعاد إلى النادي، وظل يتردد عليه، ولكنه حافظ بكل قوة على ألا يمد يده إلى أي مشروب كحولي رغم كل الإغراءات، وظلت الفتاة تجلس معه دائما كلما حضر، وتكتفي بما تحصل عليه من قيمة الشراب الذي يقدمه لها، وارتاحت إلى حديثه، وعندما تعمق الحديث بينهما قال لها انه يرتاح للجلوس معها ويريد ان يدعوها يوما للغداء في الفوكيت ولكنها ترفض وتقول له :
ـ إنني أسهر طوال الليل ولا استطيع أن أخرج في النهار 
فيتفق معها على اللقاء في يوم عطلتها، ويجلس معها ويحدثها عن رحلته ثم يقول لها :
ـ أنا بصراحة اعجبت بك كثيرا خصوصا عندما سمعت قصة حياتك، ولماذا ترتادين هذا النادي، ولهذا فأنا اسألك إن كان بالإمكان أن أساعدك على التخلص من عملك هذا وأبحث لك عن عمل آخر تحصلين فيه على نفس المبلغ دون الحاجة إلى التعري والرقص، وأنا يا مارجريت تأثرت كثيرا بقصتك التي رويتيها لي، وكيف تعملين لتنفقي على أمك المريضة، وإنك تقومين حتى بعمل آخر  من أجل توفير القوت لها وأحسست باحترام لك ولمروءتك هذه، وهذا ما جعلني أشعر برغبة أكثر للجلوس معك والحديث إليك، ورأيت فيك الطهر والنبل الذي لا يراه رواد الملهى، ومن هنا يا مارجريت تعمق إحترامي ودعيني أقول حبي لك. 
فترد وهي تبتسم :
ـ ماذا تعني بعمل آخر.. هل تريد أن تتزوجني 
ـ لا.. لا..لقد اسأت الفهم ,, أنا اقصد أن نبقى أصدقاء وأن أخرجك من هذا المكان إلى مكان آخر أكثر هدوء، وأنظف وأطهر.
ـ يعني تأخذني إلى المسجد!
لا.. لا.. أنا اعرف أنك مسيحية من حديثي معك، ولكنني تعلقت بك وبأحاديثك العذبة ولهذا أرغب في مساعدتك على الخلاص من هذه البؤرة التي أنت فيها.
ـ يا سيد عليوة أنا في واد وأنت في واد آخر.. أنا ألفت على هذه الحياة، ولا استطيع تغييرها، وأنت عشت حياة مختلفة تماما، وحتى حياتك في باريس لم تستطع تغيير كثير من مفاهيمك ولا مبادئك، فأنت تأتي من أعماق البادية، فمن الصعب أن نلتقي وأنت من قرية في قمم  الجبال وأنا من زاوية في قلب باريس.
دعيني أقول لك بصراحة.. انني أرتاح إلى تحليلك هذا، ولكنني ما زلت أصر على أنك من الممكن أن تخرجي من هذا المكان إلى مكان آخر.
ـ يا عليوة هذا وهم تعيشه وعاطفة أشكرك عليها، ولكن كلانا يختلف عن رفيقه، فعد إلى جامعتك واتركني في هذا الملهى، ومرحبا بك في أي وقت تأتي إلى هنا حتى على كوب ماء.

يخرج عليوة وينقطع عن زيارة الملهى وينشغل بدراسته، ولكنه يظل يفكر في تلك الفتاة”ما رجريت”ويحاول الإتصال بها ثم يلقاها ويتحدث معها بصورة جدية عن رغبته في الزواج منها وإنه سوف يتغلب على كل العقبات التي تواجهه وسوف يوفر لها المبلغ الذي يعينها على الإنفاق على والدتها التي كانت تعمل من أجلها.

تفكر”مارجريت”طويلا ثم توافق، ولكنها تطلب ان يظلا في مرحلة الخطوبة لفترة لا تقل عن سنة فيوافق عليوة ويصحبها بين وقت وآخر للقاء الزملاء الذين بدأوا يألفون رؤيته معها وعلموا عن علاقته بها، ويعلقون عليه عليوة”رانديفو”.

بعد عام أخذها بيده واتجه نحو مكتب خاص للزواج ليوثق العقد، فكتبت كل شروطها، وكتب ما يريده منها، وسألهما الرجل الذي يتمم إجراءات العقد الأولية :
ـ في أي كنيسة تريدان أن يعقد قرآنكما 
يصمت عليوة ويفاجأ بقولها :
ـ لا يا سيدي لا نحتاج إلى كنيسة فقد أسلمت الليلة وسوف نعقد قرآننا في  المسجد.
فرح عليوة وتم الزواج وعاد بها بعد الماجستير إلى تبوك وكانت ملتزمة ومتحجبة وفرحة بزواجها من عليوة وأسرها عطفه عليها وتضحيته من أجلها، واستقبلها الأهل بشيء من الخوف والفرحة في البداية، ولكن في النهاية رحبوا بها، وبقيت مع زوجها.  
ذات يوم أخذها وسارا في جنبات الوادي، وفوجيء بها عليوة تلتفت إلى الناحية الأخرى كلما حدثها، وكأنها تتحاشى النظر إليه، وعندما جذبها لاحظ قطرات الدمع تتساقط من عينيها فقال لها ـ وقد سماها”جميلة”بعد إسمها السابق :
ـ يا”جميلة”لماذا تبكين.. هل تشعرين بأي قلق أو خوف أو رغبة في العودة إلى باريس.
تمسح دموعها وهي تنظر إليه :
ـ لا يا عليوة إنني اشعر بأن هناك هبة من السماء قد هبطت علي حتى أكون في هذه الوديان الرائعة بعد أن عشت جوانب من حياة قاتمة في جنبات باريس في الملهى، وأنا أرقص الديسكو واليوم أسير في  الوادي معك فرحة بهذه الحياة  الجديدة، وصدقني إني معجبة جدا بهذه الآثار الجميلة، وأشكر لك أن أعطيتني الفرصة لأرى قلعة المويلح، والأزنم ، وقصر شواق، وكل هذه النقوش التي أراها بالبدع، وقد كتبت عليها آيات قرآنية، وكما أخبرتني أنت إن عليها آية الكرسي، وسورة الإخلاص، وتلك الشواهد على القبور بلغات تركية قديمة وعربية.. إنني يا حبيبي عندما مررت بهذه القرى، ورأيت القرى الصغيرة منها، المبنية على الحجر البركاني، في بيوت متسلسلة وبسيطة، ولا حظت حرصهم على وجود المساجد بينهم كمصليات صغيرة، ولعلك تذكر ما قلته لك ونحن نمر بأم قربات، وأبو المرو، وأم قزاز في طريقنا من الوجه بأنني مبهورة وأنا أتجول معك وخاصة هنا في البدع، بهذه القبور التي أراها منحوتة، والتي علمت إنها ترجع إلى العصر النبطي، وبعضها يرجع إلى فترة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الفترة الإسلامية المبكرة. 
ـ إذا أنت معجبة بالآثار ولست معجبة بالعريس.
ـ لا.. أنت مكانك في القلب ولكني نشأت على ولع بالآثار، وعندما تجولت هنا فرحت، وقلت في نفسي ما لهؤلاء القوم لا يعتنون بآثارهم، ولا يحرصون على تقديمها للعالم ودعوتهم لزيارتها واستكمال المطلوب لعرضها بطرق علمية حديثة.. أنا اعتقد يا عليوة أن منطقتكم هذه يمكن أن تكون رافد سياحي كبير يفد إليه الناس من كل مكان، وأنا معجبة بكل ما أراه  وهذا ما يجعلني أبكي فرحا، فهل تفهمني.

يحضنها عليوة ويسيران في إتجاه المنزل وزخات من المطر تهطل عليهما.