شاركنا على صفحاتنا الاجتماعية

لقد حولتنا الحياة الحديثة بأنانيتها الشرسة وماديتها الضارية الى آلات تتحرك بدوافع بعيدة كل البعد عن العواطف والمشاعر الروحية اللطيفة ، ولقد جففت اساليبها ينابيع الحب في مجتمعاتنا ، وقذفت بنا بعيدا عن جذوورنا وحصرت اهتمام كل منا داخل نفسه وربطتها بالمادة والمادة وحدها فقط

 للعقلاء فقط

الشَّغالة... و نزْوة عُمْر...

د. محمد عبده يماني

كان رجل أعمال يرعى أسرة قوامها الزَّوجة والأولاد الأربعة وكان يستقدم "الشغالات" للعمل في بيته من جنوب شرق آسيا.. ولم تكن الزوجه راضية عن أدائهن.. وطلبت منه إستقدام إحدى الأفريقيات بعد أن سمعت من صديقاتها عن مدى إخلاصهن في العمل وحسن خلقهن ، وكذلك المثابرة والخدمة الممتازة واستجاب الزوج واستقدم "شغالة" من أفريقيا..

كان أداؤه في عمله عملا رجوليا وتعاملا مغموسا بمسحة من الرقة.. وفي بيته يحترمه الجميع ويحنو على الجميع.. يعيش يومه في دوامة من الإجتماعات واللقاءات ، وكان دائم النظر إلى المستقبل، رافعا رايات التفاؤل فوق جبال اليأس.. يتدفق حيوية .. وهو لا يزال شابا.. لكنه يجمع بين حكمة الشيوخ وهدوءهم ، وحيوية الشباب في أعمالهم ، يقدم خبراته وخدماته لكل سائل على أكمل وجه ، وأجمل صورة مهما كانت الظروف..

وجاءت الشغالة وقد سبق لها أن عملت في بيوت أخرى بنفس البلدة التي جاءت لتعمل بها.. وكانت ترى في بعضها التمزق والتشرد بين أفراد الأسرة وكذلك الإنعزالية.. وكانت ترى الزوج في وادٍ والزوجة والأولاد في وادٍ آخر.. الزوج كثير السفر ، والزوجة كثيرة الصديقات ، والأولاد حيارى يكادون يربون أنفسهم بأنفسهم..

وبدأت الشغالة تنظر إلى هذا الرجل نظرة أخرى.. غير التي كانت تراها في بيوت الآخرين ، نظرة إعجاب وتقدير وكلما خلت إلى نفسها كانت تعقد المقارنات بين تصرف هذا الرجل الجاد ، الراعي لبيته وأسرته ، وبين تصرف بعض الرجال ممن عملت عندهم من قبل.. كانت ترى فيه الكبرياء والقيمة ، والشراهة للمشاركة في كل فعل للخير، وترى فيه التواضع في التعامل ، والمشاعر الإنسانية الحقيقية ، والأخلاق الكريمة، والعشرة الطيبة، فحرصت أن تكون دائماً في خدمته وعرفت كل متطلباته اليومية منذ إستيقاظه صباحاً وحتى يأوي إلى فراشه.. من إعداد الفطور وقهوة الصباح وملابس الزوج نظيفة مكوية وتنتظره في المساء حتى عودته.. حتى لو عاد في ساعة متأخرة من الليل.. بينما تكون الزوجة والأولاد في سبات عميق.. تسأله هل تناول طعام العشاء؟ هل يحتاج إلى شراب ساخن؟ هل.. هل...

لاحظت الزوجة هذا الإهتمام والحرص على خدمة الزوج بهذه الروح وأنها لم تترك لها أي فرصة لخدمته!! وبدأت تغار منها.. وأصبحت في حيرة من أمر هذه "الشغالة".. وتتساءل ماذا وراء هذا التفاني في خدمة الزوج؟! وهل زوجها يرى أنها مجرد شغالة نشطة تؤدى عملها بأمانة دون غرض أو هدف؟.. أم أن هذه الخدمات وهذا التفاني قد يشده إليها فيتأثر بها؟! ويتعاطف معها.. وما مدى تجاوبه مع هذه الخدمات؟! و...و... و... إنها لم تقصر في خدمة الأولاد لا في رعاية البيت.. ولكن الأوهام الممتزجة بالغيرة جعلت الزوجة تراقب تحركاتها ونظراتها.. وتراقب من طرف خفي نظرات الزوج لعلها "تضبطه أو تضبطها" في حالة تلبس بنظرة تؤكد لها بعض الظن.. وهل في نظرات أحدهما وَلَهْ واشتهاء ؟! وهل فيها نداء لعشق دفين ؟! وهل تبوح عيونهما بمكنون الشوق الحبيس في صدريهما ؟!.. لتقول أشياء تعجز عن قولها الشفاة ؟!!.. أصبحت تدور في حلقة مفرغة.. ويدور حديث بينها وبين نفسها كالنواح.. هل هي واهمة؟! هل ما تراه سراب؟! لأنها عطشى لترى الحقيقة؟! وإلى متي يطول عذابها وشكوكها وأوهامها؟