شاركنا على صفحاتنا الاجتماعية

(الحرية في العمل الإعلامي مطلب هام.. حيث يجب ان يتعلّم رجل الإعلام لدينا مفهوم الحرية وأبعادها ومستوياتها باعتبارها أصالة، وليست مجرد شعارات أو مجرد انطلاق من القيود بدون ضوابط أو روابط. والحرية تبدأ بالسيادة على النفس، وإطلاق إرادة الإنسان وعقله وعواطفه من قيود الشهرة.. والشخص الحر هو الذي تتجلى فيه المعاني الإنسانية السامية فيضبط نفسه ويمنعها من الهبوط إلى سواقط الأمور).

 أحاديث في الاعلام

سلمى في جزيرة البياض

محمد عبده يماني

الحياة في حارة اليمن تطحن الناس، فظروف المعيشة قاسية، ووقف شاب أسمر ينظر الى  البحر، ويلف على رأسه العمامة، وفي وسطه الحزام، ويكتسي بالفوطة، وهو دائم التردد على البحر ليكسب رزقه بعرق جبينه ، لكنه بدأ يضيق يضيق بتعامل الناس وما يلقاه من بعضهم من قسوة وظلم ، وأحس بأن بعض الناس الذين يلقاهم يبدون وكأنهم وحوش تأكل بعضها البعض، او حتى قروش تفتك ببعضها، وغاب التراحم وقلت الشفقة ، وضاعت المروءات الا من رحم ربي، وبعض الناس تعودوا على الكذب وعدم الوفاء بالوعد، وتقسو الحياة على هذا الشاب، وشعر وكأن الدنيا كلها في حارة اليمن تضيق به وتدفعه للهرب خارجها ، وقد ظل يفكر كثيرا في الهجرة والبعد عن الحارة، وعن جدة ليكون بعيدا عن الناس  فلعله يجد الراحة والاستقرار وأخذ يردد :
ـ لعل البحر يكون أرحم  

عاد الى البيت وحكى لزوجته ما يشعر به ، وفوجيء بموافقتها على أن تذهب معه الى أي مكان يشاء ، وجمعا ما تيسر لهما من مؤن وأخذ خيمة وبعض الأثاث البسيط ، وقرر أن يذهب هو وزوجته الى جزيرة البياض ، فقد ألف زيارة هذه الجزيرة لعدة سنوات ، واجمل ما فيها أنها صغيرة وبارزة في عرض البحر ، والماء يحيط بها من كل جانب ، والأمواج تصطدم بها وتقذف بماء  البحر ليغطي معظمها ، والهواء العليل يمر بها

وفي الصباح الباكر رحلا الى الجزيرة ، واقام الخيمة وشدها بقوة خوفا من شدة الرياح واستقرا هناك

أخذ يذهب للصيد ثم يبيعه في البنقلة، وبعد مدة من الزمن يكتشف ان هناك أناس  يمرون بالجزيرة، ويعرض عليهم شراء بعض الأسماك التي يصطادها، ويتطور  الأمر فيقوم هو بطبخ الأسماك وتجهيزها بطبخات بسيطة مثل الصيادية والمشوي والسلطات ، وتساعده زوجته، ويسترزق بهذه الطريقة، ويعيش حياة سعيدة هو وزوجته ويرزق بطفل 

كان قدوم هذا الطفل مصدر سعادة وفرحة كبيرة لهما واستمرت حياتهم في الجزيرة يطربون فيها لسماع امواج البحر وهي تصطدم بالصخور في الجزيرة ، وفكروا في بناء غرفة صغيرة لهم عوضا عن الخيمة التي يقيمون فيها ولكن خفر السواحل رفض ذلك ولم يسمح لهم ببنائها ويجري جدال بين ابو مرعي وبين ضابط خفر السواحل :
ـ كيف تسمحون ببناء ناطحات سحاب على الضفاف امامنا في ساحل البحر ، وانا بعيد عن المدينة لاتسمحون لي ببناء منزل بسيط ؟؟
يرد الضابط في غِلظة :
ـ هذه أوامر وعليك احترام الأوامر ، واذا زودتها نخرجك من الجزيرة .
يقول ابو مرعي :
ـ لكني لم ارتكب اثما انا في بلدي واحمل هويتي وهذه زوجتي ومن حقنا ان نبني سكن ، بل انا اذهب الى القول ان من حقي على  الدولة ان تساعدني في بناء منزل ولو هنا في عرض البحر ، او على الأقل تكفيني شركم .
فيرد الضابط :
ـ لا تكثر الكلام وازل البناء الذي احدثته وعد الى خيمتك قبل ان يحدث ما هو اشد وما لا تحمد عقباه
وانطلق الضابط في خفر السواحل بقاربه مبتعدا ، وابو مرعي ينظر اليه ويقول بصوت منخفض :
ـ ماذا بقي حتى تهددنا به فقد منعتنا من بناء مسكن بسيط لنا دون مبرر في جزيرة نائية ، وهجمت علينا كالقرش في هذا البحر يهجم على فريسته ، ولم تستمع حتى الى اعتراضنا او تحلل شكوانا ، ولكن حسبي الله على رجال سلطوك علينا وعلى أمثالنا دون أن يعلّموكم ادب الحوار ، او حتى أبسط مباديء الرحمة ، ولو قام بهذا العمل رجل من اثرياء البلد وبنى حتى قصرا هنا لم تكن تجرؤ حتى لتكلمه ، ولكن على أي حال نحن في عرض البحر ونتعلم من السمك ، الكبير يأكل فيه الصغير ، ولكننا نتجرد من انسانيتنا في بعض الأحيان ، فلا نرحم ولا نتذكر ان من لا يرحم لا يُرحم .

وعاد ابو مرعي ودخل الخيمة ، وقد عزم في اليوم التالي على هدم الأجزاء التي بناها خشية من تسلط هذا الضابط اذا عاد الى اطراف الجزيرة .
استمر معتوق يجمع صيده بعرق جبينه ، تساعده زوجته الحبيبة وقد علمها الصيد ، ويذهب كعادته لبيع المحصول الذي يجمعه من الأسماك ، ثم يعود ، وفي بعض الأيام كان يدركه الليل فلا يستطيع الرجوع الا في اليوم التالي ، وتطور الأمر معه حيث اخذ يمضي اكثر من يومين او ثلاثة ثم يعود ، ويشرح لزوجته انه انشغل بشراء بعض الحاجات ومحاسبة بعض تجار البنقلة .

ثم غاب معتوق اسبوعا بكامله ، فأصاب سلمى القلق ، ولكنها كانت تطمئن نفسها وتسترجع الظروف التي شرحها لها وتقوم هي بالصيد وتجميع الأسماك وتتركها في الماء حتى لا تخيس ، فاذا جاء وجدها جاهزة ، وتذكرت انه عند خروجه الأخير كان يبدو ساهما ، ووقف وهو يودعها على الصخرة بجوار القارب ، ثم مد يده وضمها اليه وقبل رأسها مودعا ، وهو مالم يفعله قبل ذلك ، وخافت عند شعورها بأن هذه الأشارة وكأنها اشارة الى الوداع الأخير ، وتوجهت الى الله ان يحفظه ويعيده ، فليس لها في هذه الدنيا الا معتوق ومرعي تربيه ، والسماء تظلهم كغطاء في هذه الجزيرة ، والصخور والرمال تحت ارجلهم والبحر من حولهم ، وهم في سعادة غامرة ولكنها ظلت تتجلد وتحاول ان تدفع عن ذهنها كل تلك الأفكار التي احاطت بها ، ومضت الأيام وهي تتجلد وتصبر وتضم مرعي الى صدرها ..

ويأتي المساء تلو المساء والصباح تلو الصباح وهي تترقب والأيام تتوالى ولكنه لا يعود وتمضي الأسابيع والشهور وهي تعيش على فتات السمك الذي يتخلف من القروش بعد أن تأكل على شواطىء الجزيرة ، وما تقوم " سلمى " باصطياده من السمك وأخذه للناس الذين يتوقفون عند الجزيرة فيتعاطفون معها ويحضرون لها بعض الأطعمة ، وتقوم هي كما تعودت مع زوجها باعداد الطعام لهم وانواع مختلفة من الأكلات ، وسارت حياتها على وتيرة حزينة فهي قلقة متألمة مترقبة ، ولم تسمع عن ابا مرعي اي شيء وحاولت مع خفر السواحل الذي لم يجد له اي اثر .

    ويمضي الوقت ، وبعد سنوات ثلاث وهي تكافح على جوانب هذه الجزيرة تحضر مجموعة من الناس للاستراحة في الجزيرة ، فتعد لهم الطعام ، ويحرصون على سماع قصتها ، ولكنها تفاجأ بعد ذهابهم الى المركب للراحة في تلك الليلة بأن يحضر اليها مساعد من مساعدي القارب الذي حضروا فيه ، وهو شاب يافع من حارة المظلوم ،  ويفاجئها بانه يعرف زوجها ، وانه يعرف انه يقيم الآن مع سيدة تعرف عليها وتزوجها في منطقة رابغ ، واعطاها العنوان .

    ظلت طوال ليلها تفكر في هذه الكارثة التي حلت عليها ، وكيف تجرأ ابو مرعي ان يتنكر لتلك العشرة ، ويقذف بها في عرض البحر ، ولكنها جمعت قواها وحرصت على ان ترتب نفسها وعادت الى جدة ثم ذهبت الى رابغ ، وتوجهت الى المكان الذي وصفه لها الرجل وطرقت الباب .

فتح ابو مرعي الباب وفوجىء بها ، واخذ يتحدث اليها وهو مرتبك ، ويجري بينهما حوارا شديدا ، وتخبره عن عظيم الخيانة التي قام بها ، برميه لها هي ووليدها في البحر ، هذا الطفل الذي تحمد الله انها ا ستطاعت ان تحمية وتنشئه ، ولكنه اليوم في حاجة الى المدرسة وقد حضرت من اجل هذا السبب .

ويشعر ابو مرعي بالخجل ، ويتقدم لها ليعتذر ولكنها ترفض بكل قوة ، وتقول له :
ـ يا ابو مرعي لقد خنت الأمانة ، وغدرت بي وبطفلك ، وتركتنا في تلك الجزيرة النائية ، دون ادنى رحمة او شفقة او وخز للضمر  انا يهمني أمر واحد  هل استطيع ان افهم لماذا اقدمت على هذه الخطوة ودمرت حياتنا نحن وهذا الحبيب مرعي ؟ .. وليتك تذكر ايام حارة اليمن  وكيف كنت تشعر بقسوة الناس وظلمها لبعضها البعض .. فلماذا قسوت علينا وظلمتنا وشتت العائلة بظلم مثل الذي كنت تشكو منه .. ولكن على أي حال يبدو ان حياة المدينة الجديدة قد أغرتك .. وبعد ان هربت من ظلم الناس اندفعت الى ظلم نفسك ومن حولك .. واصبحنا نحن الضحية .

ويحاول ابو مرعي أن يجيبها وهو يرخي رأسه خجلا :

ـ انها نزوة من نزوات الشيطان ، فأنا كنت اذهب لبيع السمك ، فلقيت احد البحارة الكبار ، ونشأت بيني وبينه علاقة ، وكان يأخذني الى منزله ، واعجب بي ، وعرض علي ان يزوجني ابنته ، ولم استطع الرفض ، فقد كان الرجل يكرمني كثيرا ، وعندما اخبرته عنك قال لي ، يمكنك ان تبقى مع زوجتك ، ويمكنك ان  تأتي هنا بين وقت وآخر وأزوجك " سميرة " واشاركك في بعض تجارتي البحرية ، وأصابني الطمع ، وهذه نزغة من نزغات الشيطان ، وكلنا يا سلمى خطّاء ، والله سبحانه وتعالى يغفر ويعفو ، وانا اطلب منك العفو ، واعترف انني اخطأت في حقك .

ـ ان الله كبير ويعفوا عن كثير ، واما انا فإنسانة ضعيفة ولا استطيع ان اتحمل هذه الصفعة منك بعد كل ما فعلت وكل ما قاسيناه معا وعشنا على البحر وعشنا مع الأسماك وكنا في غاية السعادة ، فاذا بك تتنكر لكل ذلك وتأتي اليوم وتطلب مني السماح .. لا يا ابو مرعي لقد خنت الأمانة واخلفت الوعد ، وقد اشهدت عليك كل شيء من سماء وبحر وكل ما حولنا ومن حولنا وسوف يكون لنا لقاء
حاول ان يمسك بها ولكنها رفضت ، وبعد ايام قليلة فوجيء ابا مرعي بطلب من المحكمة ، وحضر وهو مرتبك فوجد " سلمى " مع ابنه " مرعي " عند القاضي الذي حكت له سلمى القصة ، فأمره القاضي بأن يطلقها ويتركها لحالها ، ويتكفل هو بمصروف الطفل ، ولكنه رفض وقال للقاضي :
ـ انا اريد ان ابقي على زوجتي وطفلي .
ولكن القاضي تحدث اليه بقسوة وقال له :
ـ أنت لا تستحق هذه المرأة ، وعليك ان تطلقها وتتركها لحالها والا الزمتك حتى بالنفقة عن السنوات التي مضت ، لقد ظلمت هذه الانسانة ، وحرمتها وجعلتها تربي هذا الطفل في عرض البحر ظلما لا مبرر له وخيانة للعشرة
يرفض ابا مرعي ان يطلّق فيفاجيء بصوت القاضي وهو يرتفع:
ـ اعلن انا القاضي " سامي ابو شريف " إني قد خلعت هذه المرأة " سلمى بنت عبد الله  ام مرعي " من زوجها بقوة الشرع وبحقها لأنها ظُلمت وسُحقت حقوقها ، وبحقها في كفالة طفلها الذي ربته بعرق جبينها .
يحاول ابو مرعي ان يعترض ولكن القاضي يأمر الجنود باخراجه الى خارج المحكمة ويطلب القاضي من الكاتب ان يعجل بعمل الصك ويعطيه لها وهو يقول :
ـ اسأل الله ان يعينك
وتشكره سلمى وهي خارجه :
ـ يا حضرة الشيخ الله ما يضيع احد ويرزقني رزاق الحيايا في جحرها ، ورزاق الأسماك في بحرها .
وتسحب طفلها مرعي خارجة ، ويلقاها ابو مرعي عند الباب ولكنها تقف أمامه وترمي الصك في وجهه :
ـ حتى هذا الصك لا اريده ، فأنا سوف اعيش لإبني ، أما انت فستلقى جزاءك عند رب العالمين ، وأنا اشعر بأني اكرم منك لأنني تركتك على البر بعد ان تركتنا على البحر .