شاركنا على صفحاتنا الاجتماعية

لو عدنا الى حظيرة الإسلام واخذنا بأسباب التطور الحديث وعدلنا مناهجنا ، واصلحنا مدارسنا ، وبدأنا نعلم ابناءنا طرق التفكير  الصحيح والعمل الجاد لوصلنا ا لى ماوصل اليه القوم ، بل لتعدينا ذلك ولأضفنا وأبدعنا .

 المسلمون والتطور في علوم الفضاء

حادثة.. عند "دوار" الجامعة..

د. محمد عبده يماني

ارتفع صوت صرير عجلات السيارة وهي تتوقف فجاءة بعد أن كانت تسير بسرعة كبيرة نجم عنها ذلك الصوت المزعج الذي استلفت انتباه المارة الذين كانوا يسيرون في الشارع..

وتلا ذلك صوت ارتطام السيارة بجسم ما ، ثم صوت عجلات السيارة وهي تستأنف انطلاقها بسرعة هائلة وقد ارتفع هدير محركها بصورة توحي بالمأساة التي وقعت..

واتجهت الأنظار إلى السيارة التي لم يكد يلمحها أحد ، ثم تحولت إلى الجسم الدامي الذي خلفته بنتيجة الاصطدام ، وقد بدأت تتجمع حولها بقعة كبيرة من الدماء..

وفي دقائق كان الناس يتجمهرون حول الجسم المسجي بلا حراك وارتفعت الأصوات تتكلم دفعة واحدة..

-    الرجل ينزف بغزارة..
-    إنه يوشك أن يفقد دمه كله..
-    يا جماعة افعلوا شيئا .. أي شئ..
-    ليتصل أحدكم بشرطة النجدة أو الإسعاف..
-    ياله من مجرم.. ذلك السائق الذي لاذ بالفرار وترك ضحيته ملقاة على الأرض..
-    تعالوا بنا ننقله إلى المستشفي..
-    لا.. لا.. لا يجوز تحريكه من مكانه قبل أن يصل رجال النجدة..



حدث ذلك صباح يوم السبت ، عند "الدوار" القريب من جامعة الملك عبد العزيز في جدة وعلى مسافة بضع عشرات من الأمتار من السكن الجامعي القريب من الجامعة..

وكان معظم المارة من الطلبة الذين كانوا يتجهون إلى جامعتهم سيرا على الأقدام فالمسافة بين الحي الجامعي والسكني وبين الجامعة ليست بالبعيدة..

وبينما كان المارة يعلقون على الحادث ، كلاً حسبما يتراءى له ، التفتوا جميعا بحركة تلقائية عندما تنامي إليهم صوت سيارة شرطة النجدة وهي تقترب ، ثم لم تلبث أن توقفت ليهبط منها ضابط شاب برتبة ملازم..

-    الحمد لله .. لقد وصلت سيارة شرطة النجدة.

نطق الناس بهذه العبارة وهم يروون إلى الضابط وهو يتقدم منهم ، فأفسحوا ليه مكانا ليلقي نظرة على المصاب ثم يسارع إلى سيارته ليخاطب غرفة العلميات بجهازه اللاسلكي طالبا إرسال سيارة إسعاف.. وعاد الضابط إلى المتجمهرين يسألهم عن معلوماتهم ، فتطوع أحد الطلبة للحديث:-

-    أنا رأيت الحادث يا حضرة الملازم.
-    هه .. قل .. ماذا جرى؟!
-    لقد سمعت أولا صوت الفرامل ، ثم صوت ارتطام السيارة بشئ ، وحين وجهت نظري نحو مصدر الصوت رأيت هذا الرجل ملقى على الأرض ، ومؤخرة سيارة ذات لون أسود وهي تستأنف انطلاقها بسرعة كبيرة.. وأيد الآخرون افادة الطالب ولكن خيبة الأمل ارتسمت على وجهه ، فليس في هذه المعلومات المبتسرة ما يمكن أن يهدى العدالة إلى مرتكب الحادث..

وأدار الضابط وجهه في الأشخاص المتجمهرين حوله وسألهم:
-    هل رأى أحدكم رقم السيارة؟!
وكان الجواب صمتا مطبقا
وعاد الضابط يسأل:
-    نوعها؟! .. طرازها؟! .. أية معلومات يمكن أن تدل عليها؟!
وقبل أن يسمع جواباً على أسئلته حضرت سيارة الإسعاف وسارع رجالها إلى فحص المصاب ليتبينوا كما توقع الضابط أن المصاب قد توفي فور وقوع الحادث فحملوه إلى المستشفي لا يداع الجثة في الثلاجة وأمسك الضابط بميكروفون سيارته وأدلى بمعلوماته إلى غرفة العمليات لتعميمها على كافة سيارات شرطة النجدة..


وبينما راح الضابط يسجل مخطط الحادث وموقع الجثة وآثار التوقف المفاجئ للسيارة اقترب منه شاب يرتدي مشلحاً أنيقا واقترب من الضابط وهو يقول:-

-    عفواً يا حضرة الضابط.. لقد بعث بي معالي مدير الجامعة لا خبركم بأنه مستعد لتحمل كافة تكاليف الإصلاح والتعويض و...

وتلفت الشاب حوله كأنما يبحث عن أحد ، ثم انتبه على صوت الضابط وهو يسأله بدهشة:-

-    وهل معاليه هو الذي ارتكب الحادث؟!
-    لا بالطبع.. إنه في مكتبه منذ ساعة مبكرة وهو يرأس إحدى اللجان الآن..
-    ما هي إذن علاقة معاليه بالحادث؟! هل السيارة الجانية تابعة للجامعة؟!
-    لا.. ولكن معاليه يعرف السائق الذي ارتكب الحادث..
وعاد الشاب يدير بصره فيما حوله ثم قال وكأنه يحدث نفسه:
-    لقد كان معي قبل قليل..
واتجه الملازم إلى سيارته واتصل بجهازه اللاسلكي بغرفة العمليات قائلا:-
-    ألو.. ألو.. اوقفوا البحث عن سيارة حادث دوار الجامعة.. لقد توصلت إلى بعض المعلومات وأريد متابعتها .. إنتهي..
ووضع الضابط الميكروفون ، والتفت إلى الشاب ذي المشلح الأنيق يسأله..
-    هه.. الآن.. قل لي.. ماذا لديك؟!
-    إنني لا اعرف شيئا عن الحادث بحد ذاته.. ولكنني انفذ ما كلفني به معالي مدير الجامعة.. لقد طلب مني أن أبلغكم أنه مسئول عن جميع الاضرار التي نجمت عن الحادث..
وبدأت الدهشة الشديدة على وجه الضابط وقال للشاب بشئ من الحدة:
-    حتى ولو كان المصاب في الحادث قد توفي؟!
-    توفي؟!
هتف الشاب بذهول واضاف والدهشة تبدو بوضوح في لهجته:
-    لم يقل لي معاليه أن في الحادث وفيات..
فقال الضابط:
-    يا صاحبي.. نحن الآن أمام جناية.. هه؟!.. هل تسمعني؟!.. نحن أمام جريمة قتل.. رجل صدم آخر بسيارته فقتله.. وأنت تقول لي أن معالي مدير الجامعة قد كلفك بابلاغ الشرطة بأنه مسئول عن جميع التكاليف والاضرار.. ومعاليه في مكتبه لم يغادره.. والسيارة ليست تابعة للجامعة.. فماذا يمكنني                       أن أفهم من هذا كله؟!


وارتسم الخوف على وجه الشاب وراح يبلع ريقه بصعوبة شديدة وهو يقول:
-    أنا مالي دخل يا حضرة الملازم.. ومعالي المدير أيضا ليس له دخل.. الأمر ومافيه .. فقاطعه الضابط قائلا بلهجة حاسمة:
-    إنني أعتبرك موقوفاً إلى حين إتضاح الحقيقة.
-    أ.. أنا؟!
-    نعم.. ما دمت الوحيد بين الموجودين الذي يعترف بنفسه أن له علاقة بالحادث..
-    ولكن..
-    كفي.. تعال معي إلى معالي المدير لنرى مدى صحة كلامك..

ولف الشاب جسمه بمشلحه ودلف إلى سيارة شرطة النجدة وقد بدأ عليه الخوف الشديد وقال وهو يتهالك على مقعد السيارة:
-    والله يا حضرة الملازم أنا مالي دخل .. أنا عمري ما دخلت قسم شرطة.. ولا عمري ركبت سيارة نجدة.. ولم يجب الضابط بشئ ،  بل أمر السائق بأن يتوجه إلى مبني مكاتب الجامعة..

-    هذا صحيح .. أنا الذي بعثت هذا الشاب واسمه صالح وهو يعمل في مكتبي ليبلغكم استعدادي لتحمل كافة النفقات الناجمة عن الحادث..

قال مدير الجامعة ذلك وهو يخاطب الضابط الذي ألح في مقابلته رغم انشغاله في اللجنة فخرج إليه وأجاب على تساؤله حول مدى صحة كلام صالح.

وعمت معالم الدهشة وجه الضابط فقال بشئ من الارتباك؟!

-    ولكن.. ما هي علاقة معاليكم بالحادث؟!
-    ليس لي علاقة طبعا.
-    إذن.. كيف علمتهم به؟!.. وما هو سبب استعدادكم لتحمل التكالف؟.. ثم هل تعلم معاليك بأن المصاب قد مات؟!
-    مات؟!
قال مدير الجامعة تلك الكلمة بدهشة شديدة دلت على أنه لم يكن يعلم بموت المصاب وردد في حيرة :
-    مات؟! .. مات؟!
والتفت الى صالح قائلا:
-    إنت لم تقل لي انه قد تسبب في موت إنسان؟!
-    عفوا يا معالي المدير.. عمن تتحدث؟!.. ومن هو الذي لم يقل ذلك؟!.. وكيف بعثت بالأخ صالح إلى مكان الحادث بعد فترة وجيزة من وقوعه؟!

وقطب مدير الجامعة مفكرا ، فهو – كما قال الملازم – أمام أمر لا يعرف له تفسيرا ، وحين بعث بموظف مكتبه للتفاهم على تسوية الموضوع كان يظن أن الحادث مجرد تصادم عادى وليس فيه قتيل..

-    سأروى لك ما عندي منذ البداية.
-    هذا أفضل يا معالي المدير..

وقبل أن يبدأ مدير الجامعة كلامه ارتفع صوت صالح بتوسل قائلا وانه ينتحب:

-    أيوه.. أرجوك يا معالي المدير.. قل له.. قل لحضرة الضابط إني مالي دعوى بالمسألة.. وأنه معاليك ارسلتني لمجرد ابلاغهم برغبتك في تحمل التكاليف.. ارجوك يا معالي المدير.. ارجوك ورد المدير على صالح بلهجة حازمة:
-    بس .. كفاية.. انت لا شأن لك بالموضوع..
-    كتر خيرك يا معالي المدير..
-    والتفت المدير إلى الضابط وروى له ما عنده:
-    إن ما أعرفه عن الموضوع هو إنني كنت استخدم سائقا يدعى عبد الكريم حمادى أثناء عملي في الرياض.. وقد جاء هذا الرجل صباح اليوم إلى مكتبي قائلا انه يريد مقابلتي لأنه كان ينقل عائلته من جدة إلى الرياض وانه اعتبر أن من غير اللائق أن يمر بجدة دون أن يسلم عليَّ.. وعند وصوله إلى دوار الجامعة بسيارته وقع له حادث وأنه يطلب مساعدتي لتغطية الأضرار.. وحيث أنني كنت في اجتماع هام طلبت من صالح أن يدفع له مبلغا من المال كمساعدة وان يذهب معه إلى مكان الحادث ليبلغكم استعدادي لتحمل نفقات الأضرار الناجمة عن الحادث.. هذا هو كل ما اعرفه عن الموضوع..
-    ولكن المسألة فيها رقبة.. رقبة قتيل يا معالي المدير..

قال صالح ذلك بصوته الذي خنقه التأثير فعلق المدير مخاطبا الضابط:
-    أن أحدا ما لم يذكر لي شيئا عن وجود قتيل.. وإلا فالموضوع يختلف تماما.. والتفت الضابط إلى صالح وقال له:
-    انك لم تذكر لي شيئا عن عبد الكريم هذا..
-    لقد رافقني إلى دوار الجامعة وأشار من بعيد إلى مكان الحادث.. وإلى عائلته التي كانت جالسة على جانب الرصيف ثم توارى عني ولم انتبه إلى غيابه إلا بعد أن رأيتك وأبلغتني بأنني مو.. موقوف..
-    كان يجب عليك أن تخبرني عن ذلك في حينه..
-    لم يتح لي المجال لكي أخبرك..


وتدخل المدير قائلا:
-    أرى أن تأخذ الأمور بتروَّ أيها الأخ الملازم.. سأتصل الآن بالرياض لنعرف متى غادرها عبد الكريم.. إني أعرف أين أجده.. فقد انتقل إلى العمل لدي أحد الزملاء في وزارة المعارف وهو الدكتور صلاح..
-    إنك تساعدنا مساعدة كبيرة بهذا السؤال يا معالي المدير..
قال الملازم ذلك وهو ينهض ، ثم خاطب صالح قائلا:
-    هل لك أن ترافقني يا يا أخ صالح إلى مكان الحادث لتدلني على عائلة عبد الكريم التي قلت إنك شاهدتها على الرصيف بعد توارى الرجل عن أنظارك؟
مع أنه بدأ واضحا أن صالح كان يتمني لو أن الضابط قد أعفاه من هذه المهمة ، إلا أنه نهض باستسلام واستأذن من المدير الذي كان يرفع سماعة التلفون طالبا الاتصال بالدكتور صلاح..

تنهد صالح بارتياح حين رأى أن عائلة عبد الكريم لا تزال في مكانها على الرصيف ، فالتفت إلى الضابط وهو يقول في فرح:

-    تلك هي العائلة يا حضرة الضابط.. هل تصدقني الآن؟..

ولم يجب الضابط بشئ بل حث الخطى نحو النسوة اللواتي أشار صالح إليهن من بعيد وصالح وراءه يحاول أن يلحق به..

واذ وصل الاثنان إلى المكان تبادلا نظرات متسائلة ، فلم تكن هناك عائلة كما كان صالح يظن وانما بعض النسوة اللواتي اعتدن الجلوس في هذا المكان وبيع بضاعتهن من المصنوعات اليدوية البسيطة..

وعاد الفزع يرتسم على وجه صالح ، وكأنه هو المسئول عن النتيجة ولكن الضابط ابتسم له في لطف وقال:
-    إلى أين؟!..
-    إلى مكتب معالي المدير لنعرف نتيجة اتصاله بالرياض.. وبعدها يصبح لكل حادث حديث..

وعاد الاثنان إلى مكتب المدير ، بينما كانت أفكار الضابط تحاول عبثا ترتيب المعلومات التي توصل إليها حتى الآن بشكل منطقي.. فهو لم يفهم كيف تسني لبعد الكريم أن يذهب إلى مكتب مدير الجامعة وأن يبلغه بما جرى ثم يختفي في وقت قصير جداً مع أن المدة التي انقضت ما بين وقوع الحادث ووصل سيارة شرط النجدة ليست طويلة.. كما أن الشهود قد اجمعوا على أن السيارة قد انطلقت دون توقف فور وقوع الاصطدام..

ثم – تساءل الضابط في سره – ما الذي يدعو عبد الكريم إلى الادعاء بأنه يصطحب عائلته التي تبين أنها غير موجودة..

وهز الضابط الشاب رأسه كأنما هو يعيد ترتيب خواطره المبعثرة التي لا تتسق مع بعضها لا سيما بعد أن أكد له مدير الجامعة بنفسه أن معلومات صالح صحيحة..

وقال الملازم لنفسه وهو يلج مكتب المدير:
-    هناك شئ غامض .. شئ لا نعرفه عن هذه القضية..

ولم يكد ير المدير حتى قرا على وجهه ما جعله يتوقع أنباء غير عادية فقد قال له اذ وقع نظره عليه:
-    شئ غريب.. لقد اتصلت بالدكتور صلاح في الرياض.. فأكد لي أن السائق عبد الكريم موجود هناك وكانت لهجة المدير تشي بالحيرة وهو يقول كلماته ، فارتسم الذهول على وجه الملازم بينما صاح صالح دون انتباه:
-    غير معقول يا معالي المدير..
-    هذا ما أكده لي الدكتور صلاح .. قال لي أن عبد الكريم قد أوصله هذه الصباح إلى مكتبه كالمعتاد وتساءل صالح بسذاجة:
-    وكيف استطاع إذن أن يرتكب الحادث في جدة وهو لا يزال في الرياض؟

وساد الغرفة صمت تام خلا فيه كل من الموجودين إلى أفكاره..

فالمدير كان يرى أنه قد تورط بشكل أو بآخر في قضية غامضة.. مع أن دافعه كان هو حب الخير والرغبة في المساعدة ، فإذا كان عبد الكريم بريئاً فمعني هذا أن تدخله قد أتاح الفرصة للجاني الحقيقي كي يفر..

وصالح كان يتساءل في سره عما يفعل فيما لو اعتبره الضابط عن حق قد ساهم في هروب جان وتعطيل ملاحقته رغم أنه لم يكن سوى منفذ لأوامر مدير الجامعة..

أما الضابط فكان يحاول وضع هذه المعلومات الجديدة في مكانها الصحيح ضمن ما تجمع لديه من معلومات ليس فيها بصيص واحد يهديه إلى الجاني..

وتكلم المدير أخيرا فقال:
-    أنا آسف يا ملازم لهذا الذي حدث.. وأرى أن خير ما نفعله مبدئياً هو استدعاء عبد الكريم من الرياض لنحاول أن نستجلي بعض الحقيقة منه..


وأيد صالح الاقتراح بحماسة قائلا:

-    تماما.. تماما يا معالي المدير.. ضروري أن يحضر عبد الكريم لكي يفسر كيف ارتكب الحادث في جدة وكيف توجه بعدها إلى الرياض بهذه السرعة..

وقطع صالح كلامه بعد نظرة صارمة من المدير ، وراح يتطلع إلى الضابط في لهفة منتظرا ما سوف ينطق به:
-    أعتقد أن معاليكم تلاحظون بأن الملابسات التي ذكرها الأخ صالح تستدعي فعلا حضور الرجل الذي قال لكم بأنه مسئول عن الحادث ، ولذا فإنني أؤيد رأي معاليكم كل التأييد.. لا سيما وأنكم ذكرتم استعدادكم لتحمل النتائج..

وكان المدير يشعر بأن الضابط على حق ، وأنه يتصرف وفق ما لديه من معلومات استقاها منه ، أي من المدير نفسه ، ومن موظف مكتبه..

ونهض الملازم وهو يقول:

-    إذا سمحتم معاليكم.. فإنني سأصطحب معي الأخ صالح لأخذ إفادته رسمياً وعمل المحضر اللازم بانتظار حضور عبد الكريم من الرياض..
-    ولعلنا نفهم منه إذ ذاك.. كيف ارتكب الحادث في جدة وهو كما قيل لمعاليكم موجود في الرياض.. ووضع يده على كتف صالح الذي انتفض كالملسوع ونظر إلى مدير الجامعة وكأنه يستنجد به ولكن هذا قال له:
-    اذهب مع الأخ الملازم يا صالح.. وأنا مازلت عند كلمتي عن تحمل كافة النتائج فلا تخش شيئاً بإذن الله.. وبينما كان صالح يرافق الضابط كان المدير يرفع السماعة طالبا الاتصال فورا بالدكتور صلاح في الرياض..

مساء اليوم نفسه وصل عبد الكريم من الرياض وتوجه فور وصوله إلى جدة إلى منزل مدير الجامعة الذي زوده مخدومه الدكتور صلاح بعنوانه ، ولم يكد يقرع الجرس ويسأل عن مخدومه السابق حتى ادخله الخادم على الفور وجاء المدير وكأنه كان في انتظاره وحاول عبد الكريم أن يرى معالم البشاشة التي اعتاد المدير أن يقابله بها وفوجئ به يرد تحيته باقتضاب دون أن يردف ذلك بالسؤال عن أحواله وأحوال عياله كما اعتاد أن يفعل..

وبادره المدير بالكلام قائلا له على الفور:
-    اسمع يا عبد الكريم .. هناك مشكلة.. مشكلة كبيرة.. بل كبيرة جدا..أقحمتني فيها على غير توقع مع إنني لم أكن أريد غير مساعدتك وإجابتك إلى طلبك..

ونظر السائق إلى المدير بدهشة شديدة وتساءل ببراءة :
-    عم تتكلم طال عمرك؟.. وأية مشكلة هذه؟!.. إنني لا أنسي افضالك عليَّ.. ولا اذكر إنني إرتكبت شيئاً يتنافى مع سابق ثقتك بي وعطفك علىَّ..
-    لسنا الآن في موقف مجاملات.. سوف يحضر بعد قليل ضابط الشرطة.. وسيتولى الموضوع بنفسه وخير لك أن تخبرني بحقيقة ما حدث.. لا سيما وإنني كنت قد تعهدت للضابط رسمياً بأن أتحمل كافة النتائج المترتبة على الحادث.. ولكنني لم أكن أعلم أن المسألة فيها.. قتيل..
-    قتيل؟!..

صاح عبد الكريم في فزع وشعر المدير في قرارة نفسه أن دهشة عبد الكريم حقيقية وأنه يبدو عليه وكأنه يتلقى النبأ لأول مرة فقال:

-    إذا لم تكن تعلم بأن المصاب قد مات فليكن هذا معلوما لديك الآن..

وقبل أن يجيب السائق بشئ كان الخادم يدخل إلى الصالون معلنا وصول الضابط..

كان المدير يشعر بأبعاد الموقف الذي وجد نفسه فيه ، بسلامة نية وبدافع من طبيعته في مساعدة الآخرين قدر ما يستطيع..

ولكنه لم يكن يتوقع أن يجد نفسه في يوم من الأيام في مثل هذا الموقف الذي يتخذ فيه صفة المحقق البوليسي ، ويتدخل في تفاصيل لا علاقة له في الواقع بها ، بل ولا يرضي أن يجد نفسه مضطرا لمتابعتها خاصة وأن للعدالة يدا كبرى فيها ، فهناك قتيل صدمته سيارة جانية ، وهناك تعهد شفهي منه بتحمل النتائج .. وهناك..

وقطع عليه أفكاره دخول الضابط الذي ما كاد يلقي السلام حتى تساءل وهو يمعن النظر في عبد الكريم:

-    هذا هو إذن عبد الكريم.. سائق معاليكم السابق؟..
-    نعم..
-    عفواً يا معالي المدير.. إنني أعتبر نفسي الآن في منزلك بصفة غير رسمية.. وأنا اقدر هذا الاهتمام الذي تبديه بالموضوع.. وأشعر بأنني أشغلك به عن أمور اكثر أهمية .. ولكنك تعلم بأن هناك جناية و..
-    جناية؟؟...
صاح عبد الكريم مرة أخرى دون انتباه وقد بدت عليه معالم الدهشة نفسها والتفت إلى المدير يقول له في توسل:
-    أرجوك يا معالي المدير.. أنا ايش دخلني بالحكاية؟!.. معاليك تقول قتيل والضابط يقول جناية وأنا والله العظيم ما عملت حاجة..

وسأله الضابط بلطف ، وقد شعر بمثل ما شعر به المدير من رنة الصدق البادية في كلامه:
-    أين كنت صباح اليوم يا عبد الكريم؟!
-    في بيت الدكتور صلاح..
-    أين؟!..
-    في الرياض طبعا.. وقد أوصلته إلى الوزارة كالمعتاد..
-    كم كانت الساعة؟!
-    السابعة والنصف كالمعتاد.. إنني اسكن في بيت الدكتور نفسه ولم اتركه قط..
-    ألم تأت إلى جدة هذا الصباح؟!
-    أنا؟!.. وايش اللي يجيبني جدة؟!
-    إنني أسألك.. هل كنت في جدة هذا الصباح؟!
-    طبعاً لا..
وتدخل المدير الذي كان يتابع الحوار صامتاً وسأل عبد الكريم:
-    ألم تأت إلى مكتبي هذا الصباح؟!
-    أنا؟.. أبدا..
-    ألم تطلب مقابلتي واعتذر لك مدير مكتبي بأنني في اجتماع مع احدي اللجان؟!
-    أبداً.. أبداً..
وتبادل المدير مع الضابط نظرة متسائلة وقد سيطر عليهما شعور مشترك بالدهشة والاستغراب واستأنف المدير أسئلته.
-    ألم تقل لمدير مكتبي إنك قد إرتكبت حادثة تصادم و...
-    تصادم؟!.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. معاليك تعلم من سابق خدمتي عندك إنني حريص جدا ولم ارتكب في حياتي كلها حادثة تصادم واحدة.. ولله الحمد..
-    وأين عائلتك!
كان صاحب هذه السؤال هو الضابط الذي التفت إليه عبد الكريم بسرعة وأجابه على الفور..
-    في الرياض..
واطرق الضابط مفكر.. بينما كان عبد الكريم ينقل بصره بذهول ما بين مخدومه السابق وضابط الشرطة ثم قال:
-    أرجوك يا معالي المدير.. إيش الحكاية؟! انا كنت جالس في الرياض بأمان الله حين طلب مني الدكتور صلاح التوجه حالا إلى جدة ومقابلتكم.. ومن وقت ما دخلت لبيت معاليكم وأنا في سين وجيم.. وقال الضابط مخاطباً المدير:-


-    على كل حال ننتظر وصول الأخ صالح.. لقد طلبت منه الحضور مساء إلى هنا في الموعد الذي كنا نتوقع فيه وصول عبد الكريم من الرياض..
-     صالح مين يا معالي المدير؟!
قالها عبد الكريم بصوت مختنق وقد بدأ في نبراته يأس عميق وكأنه طريدة أحكم الصائد الحبائل حولها ولكنه لم يسمع جوابا..
-    صالح مين يا معالي المدير.. أبوس إيدك.. قل لي إيش الحكاية؟!
واجاب الضابط وهو يضغط على الكلمات:
-    الموظف في مكتب معاليه.. وهو الذي رافقك إلى حيث كانت عائلتك.. ثم تواريت عنه.. وتبين أنه لا توجد عائلة..
والقي السائق رأسه على صدره في استسلام وكأنه يريد أن يعبر عن أنه لا يفهم شيئاً مما يقال له.. وقال المدير في نفسه:
-    لو صدق شعوري فان عبد الكريم واحد من اثنين .. إما برئ وصادق.. أو أنه ممثل بارع.. ولكنني عهدته دوما طيبا وخلوقا.. ولم أشعر يوما بأنه قادر على أن يمثل دور البرئ بهذه البراعة.. ثم إن الرجل كان في الرياض.. بشهادة الدكتور صلاح.. ولعلنا قد قسونا عليه إذ رحنا أنا والضابط  ننهال عليه بالأسئلة.. ولكن ماذا نفعل؟!..  هذه هي الطريقة الوحيدة لمعرفة الحقيقة. وتكلم الضابط مخاطبا المدير كأنه كان يتابع افكاره.
-    أعتقد يا معالي المدير أن الأخ صالح سيعطينا الإفادة الحاسمة.. فإذا تعرف عليه.. كان ذلك دليلا مهما.. وان كان لا يكفي في الواقع.. إذ يجب علينا أن نفهم كيف تسني له أن يرتكب الحادثة في جدة.. في نفس الوقت الذي يشهد فيه مخدومه بأنه كان في الرياض..

وكان عبد الكريم ينقل بصره بين الاثنين ، وقد أخذت الدهشة الشديدة التي كانت تبدو على وجهه تتحول إلى خوف وقلق.. وعاد يخاطب المدير بلهجة رجاء وتوسل:

-    لو تتكرم وتفهمني بس إيش الحكاية يا معالي المدير؟!.. أرجوك؟!.. أنا ما عملت حاجة.. والله العظيم ما عملت حاجة.. ولا عندي علم بشئ.. واسألوا الدكتور صلاح.. أنا ما طبيت جدة من اكثر من ست شهور.. ولاول مرة ابتسم له المدير في لطف وهو يقول:
-    لا عليك.. لا عليك يا عبد الكرم.. الآن يأتي صالح.. والحقيقة تظهر..
 وكأنما كانت عبارة المدير هذه إيذانا بقدوم صالح الذي ما لبث أن دخل عليهم بالفعل فور وصوله بعد أن ابلغه الخادم بأن هذه هي تعليمات المدير..
وبادره المدير فور دخوله قائلا:
-    تعال يا صالح .. لقد جاء عبد الكريم..
-    عبد الكريم؟!
هتف صالح بارتياح إذ كان معني ذلك بالنسبة إليه إثبات كلامه الذي أدلي به إلى الضابط في إفادته الرسمية..
ووقف صالح يجيل بصره في الحاضرين والملازم ينظر إليه بدهشة إذ يبد عليه أنه عرف عبد الكريم لأول وهلة..
وقال له المدير باستغراب:
-    مالك؟!.. هذا مو عبد الكريم أمامك؟!
ووجه صالح بصره إلى السائق الذي كان ينظر إليه بارتياع بعد أن فهم بأن المشكلة التي وجد نفسه فيها والتي لا يعرف ما هي تماما بالضبط متوقفة على ما يقوله صالح هذا..
وجلس صالح وهو يواصل تحديقه في عبد الكريم.. ثم قال وهو يقلب شفته السفلي دلاله على الشك:
-    أعتقد.. أعتقد أنه .. أنه هو..
وقال له المدير بلهجة حادة:
-    إيش هالكلام هذا؟!.. كيف تعتقد؟!.. يعني ما أنت متأكد؟!.. هذا هو عبد الكريم؟!.. أنا عرفه وقال الملازم مخاطبا صالح:
-    السؤال يا أخ صالح هو.. هل هذا هو الرجل الذي اصطحبته معك صباحا إلى دوار الجامعة؟!..
ويبدأ على صالح التردد وهو يجيب:
-    أعتقد.. اعقتد أنه هو.. إنني لم أنظر إليه اكثر من لحظات كما تعلم.. ووجهه ليس غريبا عني.. إلا إنني لا استطيع الجزم تماما بأنه هو نفس الرجل الذي ذهبت معه إلى دوار الجامعة..
وضرب الضابط كفاً بكف وهو يقول لصالح:
-    يا أخي.. أنت شاب مثقف.. وتعمل في مؤسسة ثقافية كبيرة.. ولا يجوز أن تكون إفادتك هكذا.. واحدة من اثنين.. إما أنه هو.. أو ليس هو.. فماذا تقول؟!
وتعلقت العيون بشفتي صالح ، ما سوف ينطق به ، ولكنه هز رأسه بمينا ويسارا وقال:
-    أغلب ظني أنه هو.. ولكنني لا أستطيع الجزم.. إنني لم أره سوى دقائق.. والوجوه يمكن أن تتشابه وزفر الضابط بنفاد صبر وخاطب المدير قائلا:-
-    والآن.. ما العمل يا معالي المدير؟!
-    اللي تشوفه..
أجاب المدير وقد بدأ عليه أنه قد يئس نهائيا من تعليل هذا اللغز..
كان في تقدير المدير أن عبد الكريم هو الشخص المطلوب ، بصرف النظر عن مسألة أنه كان صباحا في الرياض أو جدة ، فحين جاء الرجل في الصباح إلى مكتبه كان يطلب مقابلته شخصيا ، فلو كان شخصا آخر ينتحل إسم عبد الكريم لما جرؤ على طلب المقابلة لأنه يعرف – بطبيعة الحال – أن المدير يعرف سائقه السابق ولئن لم تسمح الظروف بهذه المقابلة فإن القرائن كلها تشير إلى أن طالب هذه المقابلة هو عبد الكريم ولا أحد سواه..

ولكن المدير لم يشأ أن يزيد الأمور تعقيداً بالإدلاء برأيه هذا وهو رأي منطقي فأكتفي بأن أجاب الملازم تاركا له أن يفعل ما يراه..

-    إذا سمحت معاليك.. أنا مضطر الآن لاتخاذ الإجراءات الرسمية.. وعلي استكمال التحقيق من كل جوانبه ، ولذا أستأذنكم في الذهاب لإحضار الأوراق وسأعود بعد نصف ساعة على الأكثر بإذن الله..
وغادر الضابط المكان  والمدير يرمقه صامتا..
لقد عبر له الضابط بلباقة واضحة عن مسئوليته في الموضوع..
والمح ، باللباقة ذاتها أنه يأمل في أن يجد جميع أطراف القضية موجودين في المكان نفسه عند عودته..
وتنهد المدير وهو يتمتم:
-    لا حول ولا قوة إلا بالله..
وسأل صالح رئيسه بقلق:
-    إيش يقصد الملازم بكلامه يا معالي المدير؟!
-    أظن أن كلامه واضح..
ولم يزد المدير على ذلك شيئا ، بل اطرق مفكرا فيما سيعقب ذلك ، لا سيما وأنه متمسك – بطبيعة الحال – بما قرره حول استعداده لتحمل كافة النتائج..
النتائج؟.. لقد كان يظنها نتائج عادية تنقضي بأي مبلغ كان ، أما وان المسألة قد باتت جناية فالأمر مختلف.. ولكن مسئوليته – برغبته هو – كانت واضحة.. وحتى لو كان عبد الكريم بريئا – استطرد المدير في أفكاره – فان تدخله هو في الأمر قد سهل للجاني الحقيقي الفرار..
والتفت المدير إلى عبد الكريم قائلا:
-    يا عبد الكريم.. الله يهديك.. قل الحقيقة.. قل الحقيقة عشان نعرف نتصرف..
-    والله العظيم يا طويل العمر ما قلت غير الحقيقة.. وأني من ستة أشهر ما طبيت جدة.. ولا جيت عند معاليكم.. ولا .. ولا..
واختنق صوته بالتأثر وهو يتكلم فتوقف وقد بدأ على وجهه ما يعتمل في داخله من ألم نفسي عميق.. وعلق صالح بلهجته المتوترة:
-    حاجة تجنن.. أمال مين اللي ارتكب الحادث؟!.. ومين اللي أخذني إلى دوار الجامعة؟! ومين.. وأجاب عبد الكريم مدافعا عن نفسه:
-    وأنا إيش عرفني؟!
ورفع المدير يده بحركة يطلب فيها من الاثنين الكف عن هذا الجدل العقيم وقال لهما:
-    كفاية.. واحب أن أقول لكما أن الموقف قد أفلت من يدي.. وليس لدي أدني فكرة عما يمكنني أن أفعل.. ولنترك الضابط يتصرف..
ومضت الدقائق بطيئة متثاقلة وكل من الثلاثة قد أخلد إلى أفكاره.. المدير يحدث نفسه بأنه ما كان يستطيع أن يفعل إلا ما فعل.. وأنه ما كان بوسعه أني يتأخر عن عون أي إنسان يستطيع مساعدته.. وصالح يتذكر ما حدث معه واضطراره لأول مرة في حياته لركوب سيارة الشرطة والدخول إلى "المنطقة" والإدلاء بأقواله في محضر رسمي ثم الاضطرار مرة أخرى إلى حضور مثل هذا الإجتماع الكئيب ومسئوليته في تسهيل هروب الجاني الحقيقي إذا كان عبد الكريم هذا ليس هو الجاني..

وعبد الكريم.. كان يفترسه القلق فهو لا يدري تماما حتى الآن ماذا جرى وما هو دوره في المشكلة التي يتحدثون عنها وأن بدأ له مسئول عنها بشكل أو بآخر لدرجة أنهم طلبوا إليه التوجه إلى جدة على جناح السرعة.. وكان أشد ما يؤلمه أن مخدومه السابق لم يعد يعامله بالعطف الذي إعتاده منه في الماضي مع أنه لم يرتكب ذنبا ولا أتي إثما..

ونظر صالح إلى ساعته فوجد أنه قد انقضي ربع ساعة منذ أن غاب الضابط وبدت له هذه الدقائق وكأنها ساعات طوال.. وتمنى – لدهشته – لو عاد الضابط بسرعة ليتخلص مما هو فيه من قلق وتوجس.. وفجاءة رن جرس التليفون ، ورفع الثلاثة رؤوسهم كأنما نبههم الرنين من خواطرهم..

وتناول المدير السماعة ليأتيه صوت الضابط عبر الاسلاك قائلا:
-    يا معالي المدير.. أنا آسف لازعاجك.. وآسف لكل ما جرى اليوم.. أرجو أن تعتبر الموضوع منتهيا.. وهتف المدير بدهشة شديدة:
-    ماذا تقول؟!
-    لقد قبضنا على الجاني الحقيقي.. وانتهي الأمر..
-    قبضتم على الجاني الحقيق؟!.. و.. عبد الكريم.. و... الحادث.. و....
وأتاه صوت الضابط قائلا بلهجة ضاحكة:
-    هذه مسألة تخص معاليكم.. واعترف لكم أنني .. كضابط شرطة عاجز عن حلها..

وقال المدير بلهفة:
-    الحمد لله على كل حال.. ولكن.. اتمني لو تشرح لي ما حدث..
-    كما تريد يا معالي المدير.. دقائق وأكون عندكم..

ووضع المدير السماعة وهو يقول لنفسه بصوت خافت:



-    عجيب..
وكأنما كانت هذه المكالمة الهاتفية عصا سحرية ازاحت جو الكآبة الذي كان يسيطر على المكان ، فما أن وضع المدير السماعة واوجز لسامعيه ما قاله الضابط حتى تهلل وجهه صالح وهو يقول:

-    الحمد لله ... الحمد لله..

وقال المدير باسما:

-    ولكن.. لا تنسي أن للموضوع وجها آخر..
-    أي موضوع؟!
-    موضوع عبد الكريم.. وحضوره إلى مكتبي.. و..
-    آه .. أرجوك.. ما عدت أستطيع التفكير..

وقال السائق بلهجة أسف عميقة:

-    إذن فمعاليك لا تصدقني بعد؟!.. لقد أقسمت لكم بالله العظيم على إنني كنت في الرياض.. وربت صالح على كتف عبد الكريم ملاطفا وهو يقول:
-    بسيطة.. بسيطة يا أخ عبد الكريم.. أقول لك الحق.. إنني لست متأكدا فعلا من أنك أنت الذي كان معي هذا الصباح.. ولم أشأ أن أحمل ضميري مسئولية اتهامك مع وجود هذه الشك.. ولكن إذا سألتني رأي الخاص أقول لك الآن وأمام معالي المدير إنني لو أردت الترجيح لقلت إنك أنت الذي جاء صباحا إلى الجامعة..

وحاول السائق أن يدافع عن نفسه مرة أخرى ولكن المدير اسكت الاثنين حامدا الله على ما انتهت إليه الأمور..

وحين جاء الضابط ، أوجز ما حدث في عبارات قليلة..

-    لقد لاحظت إحدى سيارات شرطة المرور سيارة سوداء اللون تسير بسرعة جنونية فتبعتها وهي تطلق "الونان" إشارة لسائقها بأن يتوقف ، ولكنه زاد من سرعته بصورة أثارت ريبة الضابط الذي كان يطاردها فمن غير المعقول أن يتمرد سائق على إشارة شرطة المرور بهذه الصورة إلا إذا كان فاراً من شئ تفوق مسئوليته مسئولية السرعة الزائدة..




وفي دقائق لحقت سيارة الشرطة بالسيارة الفارة وأجبرتها على الوقوف، وكان الفزع المرتسم على وجه سائقها يدل على صحة استنتاج الضابط ، وسرعان ما تأكد هذا الاستنتاج حينما حاول السائق على الفور تبرير فراره بعد أن ارتكب حادث الدهس عند دوار الجامعة ، وكانت هذه معلومات جديدة بالنسبة لضابط المرور ، فاقتاده إلى "المنطقة"..

واستطرد الضابط في حديثه:
-    وحيث إنني كنت قد أبلغت غرفة العمليات بأنني وضعت يدي على معلومات تتعلق بحادث دوار الجامعة بسبب إفادة الأخ صالح ، فقد استدعى الأمر بعض الوقت حتى استطاع الزملاء الضباط الربط ما بين صاحب السيارة الجانية والحادث الذي كنت أتولى التحقيق فيه...

والتفت الضابط إلى عبد الكريم ثم خاطب المدير قائلا:

-    بالمناسبة.. لقد رأيت الجاني.. ولا يوجد أدني شبه بينه وبين الأخ عبد الكريم..

وشد المدير على يد الضابط شاكرا ثم التفت إلى عبد الكريم قائلا بلهجة مداعبة:

-    والآن يا عبد الكريم.. إلا تفسر لي كيف جئتني صباحا في جدة بينما كنت أنت في الرياض؟!.. وفتح عبد الكريم فمه يريد أن يدافع عن نفسه ، فضحك الضابط وقال وهو يودع المدير..
-    أتمني لو أعلم تفسير هذا اللغز يا معالي المدير؟!..

وتنهد الجميع ارتياحاً ، فقد انتهت الأمور ولله الحمد على خير.. ولكن "اللغز" لم يحل.. وراح المدير يطيب خاطر عبد الكريم الذي لم تكن دهشته تقل عن دهشة الآخرين بعد أن فهم حقيقة الموضوع..

ووضع في جيبه "الاكرامية" التي قدمها له المدير وهو يقول:

-    لا إله إلا الله مقسم الأرزاق.. يقينا أن الله تعالى قد كتب لي هذا المبلغ فجرى ما جرى لتكرمني.. وأرجو أن تثق يا معالي المدير بأنني صادق كل الصدق في كل ما قلته وإنني لم أزر جدة منذ ستة أشهر..




ومضت بضعة أسابيع ، نسي المدير خلالها ما جرى في غمرة مشاغله ، وأن لم يكن يتمالك نفسه أحيانا من التفكير في ملابسات الحادثة التي انتهت بدون حل بالنسبة إليه،  لا سيما وأنه أعتاد أن يثق بشعوره الشخصي تجاه الحوادث والأشخاص على السواء ، فإذا كانت القرائن قد ألقت ظلالها من الشك حول عبد الكريم فإن ثقته الشخصية به ودفاع الرجل عن نفسه برنة الصدق الواضحة فيه قد جعلاه يرجح براءته وأن للموضوع تفسيرا آخر غير ما تدل عليه ظواهر الأمور..

وجاءه التفسير بعد تلك المدة على غير توقع..
فقد دخل عليه صالح ذات يوم وهو يقول بشئ من الإنفعال:

-    معالي المدير.. السائق عبد الكريم يطلب مقابلتك..

فرفع المدير نظره إليه وابتسم قائلا:

-    تاني؟!
-    دعه يدخل..
وخرج صالح بسرعة ، ولم يلبث الباب أن فتح ودخل عبد الكريم ومعه شخص آخر كان يلف وجهه بغترته وقد بدأ التردد في خطواته..

وتكلم عبد الكريم بعد أن بادل مخدومه السابق بالسلام:

-    يا معالي الشيخ.. لقد أكدت لك من قبل إنني لم آت إلى جدة منذ..

فقاطعه المدير قائلا:

-    ما انتهينا خلاص من هذه المسألة...
-    أرجوك.. دعني أشرح لك الأمر.. هذه هو الرجل الذي جاءكم بإسمي..

وأشار إلى الرجل الذي كان يرافقه ، وأزاح بنفسه الغترة عن وجهه وهو يردف:

-    إنه أخي التوأم.. وهو يقيم غالباً في ديرتنا.. وقد أعترف لي بأنه هو الذي جاء إليكم زاعماً أنه أنا.. ومدعياً أنه ارتكب حادثا.. وأخذ ما أعطيتموه من مال..

واستدار المدير إلى ظهر كرسيه وراح ينقر بأصابعه على طاولة المكتب وهو يقول:


-    آه .. هذا هو ما كنت أجهله.. لم أكن أعرف أن لك توأما يشبهك.. الآن وضح كل شئ.. وأطرق الأخ في خجل بينما استطرد عبد الكريم يقول بعفوية صادقة:
-    منذ ذلك اليوم وأنا أتساءل عن تفسير لما جرى.. أقول لكم الحق يا معالي الشيخ.. لم يخطر ببالي بادئ الأمر أن يكون أخي هو الذي فعلها.. ولكنني كنت متألما أشد الألم لما شعرت به من أن ثقتكم بي لم تعد كما كانت.. وذات يوم.. كده إلهام من الله .. تذكرته.. وعزمت على أن أتقصي الحقيقة منه.. فاستأذنت من الدكتور صلاح وذهبت إلى الديرة فوجدته وطلبت منه أن يقول لي الحقيقة.. حاول الإنكار في البداية ولكنني حين رويت له نبأ الورطة التي وقعت فيها وأن الأمر لم يعد مجرد تلاعب منه وإنما اتهام في حادث دهس تسبب في قتيل.. وأن الجاني الحقيقي قد أكتشف.. عندها بكى وأعترف لي بأنه هو الذي جاء إلى مكتبكم مستغلا الشبه بيني وبينه.. وكان ما كان..

وساد الصمت برهة ، بدأ فيها أن توأم عبد الكريم يشعر بالخجل الشديد لدرجة لم يعد قادرا معها على الكلام..

وقال عبد الكريم مكملا حديثه:

-    لقد أقنعته بضرورة الحضور معي لكي يعتذر لمعاليكم من جهة.. وليقدم لكم دليل براءتي من جهة ثانية وهاهو الآن أمامكم يرجوكم الصفح والمعذرة.

وتنهد المدير ، وعجب كيف لم يخطر بباله مثل هذا التفسير المتناهي في بساطته وقال وهو يبتسم:

-    حقا.. أن الحقيقة كثيرا ما تكون أغرب من الخيال.. إن ما يدهشني يا عبد الكريم هو تلك المصادفة الغريبة في أن يتوافق إدعاء أخيك مع وقوع تلك الحادثة في نفس الوقت..

والتفت المدير إلى الأخ قائلا في لهجة عتاب:-

-    إنك لم تكن بحاجة لان تختلق تلك القصة وتنتحل شخصية توأمك.. وكان بوسعك أن تعرفني على نفسك وتطلب مني ما طلبت..

فهمس الرجل وهو مطرق في خجل:

-    المسامح كريم يا معالي الشيخ..

وإذ نهض الشقيقان ليغادرا المكتب ناداهما المدير وهما يهمان بالخروج:

-    أقول.. احكوا الحكاية للأخ صالح.. لأنه يوشك أن يفقد عقله كلما فكر كيف استطعت يا عبد الكريم أن تأتي إلى هنا في جدة وأنت لا تزال .. في الرياض..

وتبسم الجاني وأرخي رأسه وهو يقول:

-    أنا لم أذهب إلى الرياض ولم أكن يوما في الرياض ولكن أعرف أن أخي عمل عندك لسنوات ولذلك عندما رأيت الحادث وأنا طفران فقران ليس في يدي أي شئ وسوس لي الشيطان بأن أحضر إلى مكتبك وألّفت حكاية العائلة أنهم جاءوا معي من الرياض وجمعت نساء من الذين كانوا يبيعون اللوز والأغراض في مكان الحادث وادعيت أنهم الأسرة التي حضرت معي ثم هربت بالمبلغ الذي أخذته من صالح بدعوى تسفير أهلي إلى الرياض..

هذه هي القصة يا سيدي وليس لي إلا أن أطلب العفو والمسامح كريم.. وقد شعرت بالألم بعد الحادث وإني شوهت سمعة أخي وأسأت إليك وأنت رجل أحسنت لنا ولأسرتنا وأنا خربت الأخ صالح وأوقعته في دوامة ولا حول ولا قوة إلا بالله..

والتفت المدير إلى صالح وهو يبتسم:

-    هل فهمت يا صالح؟!
-    والله سامحني يا معالي المدير هذا شئ يحير .. ولكن احلق دقني اذا انا رحت أفزع لأحد بعد كذا لأنه اهل الحارة يقولون : " اردب ما هو لك لا تحضر كيله .. يتغبر دقنك وتتعب في شيله "