شاركنا على صفحاتنا الاجتماعية

    زرت الصين ، وفرحت بلقاء المسلمين من اهل  الصين الذين حافظوا على دينهم قرونا عديدة وتعرضوا لألوان الإضطهاد بسبب اسلامهم  ومن يتجول في الصين يدرك كيف صبروا وصابروا وحافظوا على دينهم وجاهدوا في سبيل ابقاء جذوة الاسلام حية تنير لهم الطريق وحملوا الأمانة وتناقلوها جيلا بعد جيل وكل هدفهم اعلاء كلمة الله.

 قادم من بكين والإسلام بخير

أولاد حارة البحر

محمد عبده يماني 

حارة البحر إحدى حواري مدينة جدة وهي تنقسم إلى عدة حواري  حارة البحر، وحارة اليمن، وحارة المظلوم، وحارة الرويس، ويعيش في هذه الحارة رجل يعمل بحارا اسمه "سعيد الدخش" وهو يتعامل مع البحر ودائما يذهب ويصطاد من الجزر، ويعود برزقه، ويقوم وحده بقيادة القارب  والصيد، وعندما يعود يبيع جميع حصيلة  الصيد إلى شيخ في البنقلة معروف بأنه يأخذ من الصيادين ويبيع للناس اسمه "المناع".
    يستمران في التعامل، وتنشأ علاقة بين "المناع" و"الدخش" ويرتاح المناع لإخلاقياته، والقصص التي يرويها عن البحر وبعض الأحيان يذهب معه ويجلسان في مركاز حارة البحر، ويستمعان للقصص، وفي بعض الأحيان يأتي من يروي لهم قصص من الحارات الأخرى، ويتناولان الشاي، ثم يعودان إلى بيتيهما، ويتكرر مجلسهما في المركاز حيث يذهبان بعمائمهما وملابسهما وسديرياتهما 
في الناحية الأخرى من الحارة يتجمع شباب حارة البحر ويلعبون المزمار والصهبة، ويتعاملون مع بعض بأخلاقيات سامية علمها لم آباءهم، واشتهر أولاد حارة البحر بأنهم ذوو قيم وأخلاق عالية.
في أحد الأيام يحدث الشيخ المناع الدخش بأن أهله يرغبون في الذهاب للبحر في النهار في رحلة صيد، زوجته وابنته وخالتها، ويهتم الشيخ الدخش بطلبه ويعمل على ترتيب الرحلة، ويتكلم مع ا بنه "صالح" ليقوم بترتيب الرحلة، ويساعده، ويبدي الوالد رغبته في أن يأخذان قارب أكبر من أحد الصيادين حتى ترتاح فيه العائلة، ولكن الولد يرى أن لا يأخذان قارب أحد، وأن يكتفيا بقاربهما، وهذا أفضل.
    لكن مع اصرار الأب يرضخ صالح ويستعير قارب من أحد الزملاء في  المرسى، ويعدان العدة ويأخذان "اللعف" وتذهب العائلة معهم، وتمضي ساعات.
    يلاحظ صالح أن بنت الشيخ المناع "عواطف" فتاة مدلعة وطلباتها  كثيرة، وتتمادى في تعليقاتها على السمك وطريقة صيد السمك، وفي بعض الأحيان ترفع صوتها، ولم يرتح لطريقة  التعامل معها، ولكنه تقديرا لوالده استمر في الرحلة.
    بعد العودة أوصلوهم إلى المنزل، وتستمر العلاقة، ويحس صالح أن والده يحتاج إلى عونه، ويعرض عليه أن يذهب معه في بعض الأيام لمساعدته في الصيد، ولكن الوالد يرفض ويرجوه أن يتفرغ لدراسته لأنه يتطلع إلى أن يحمل صالح شهادة تؤهله للعمل.
أمام إصرار الإبن يسمح الأب له بمصاحبته في بعض الأيام، ويكتسب خبرة كبيرة في البحر، ويعود إلى زملائه في حارة البحر، ويخبرهم بالأوقات الجميلة التي يقضيها مع الوالد في البحر، وشعوره بالفخر أنه يساعد والده.
    بعد عدة أشهر يفاجأ صالح بأن والده يخبره بأن الشيخ مناع يرغب في رحلة صيد أخرى للعائلة، ويتردد صالح كثيرا بعد ما لاحظه من عدم ارتياحه لتعامل الفتاة، ولكنه أمام إصرار والده ورغبته يوافق ويعد للرحلة.
    يلاحظ صالح أثناء الرحلة أن الفتاة تغيرت كثيرا، وكأنها أحست بالذنب من تعاملها السابق، ويمضي يوم جميل في الصيد، وأثناء سحب بعض السمك تشد هي خيط اللعف، ولكن السمكة كانت كبيرة، فساعدها صالح على سحب السمكة، وفرحت وهي تنادي على أمها، وفرح  الجميع  ولكن صالح لاحظ أن إصبعها يدمي بعض الشيء، من ضغط خيط الصيد وطرف الشنكار، فيسرع ويضغط على يدها، ثم يحضر لفة لديه ويضعها على يدها، ويغطيها، فتشكره الأم ويعودوا في نهاية اليوم إلى المرسى، ويفاجأ بأن أخوها " علاء " في انتظارهم بسيارته على المرسى، ويقوم صالح بمساعدتهم على النزول من القارب، ولكنه أثناء مساعدة عواطف يشفق عليها صالح من الجرح الذي في يدها، فيقبض على يدها، ويغلق مكان الدم.
فجأة يحصل ما لم يكن في الحسبان، حيث يصرخ علاء في وجه صالح لأنه مسك بيد أخته عواطف، ويحاول صالح أن يشرح له إنها جرحت في البحر، ولهذا يساعدها، ولكن علاء يتعامل مع صالح ووالده بأنفة وتعالى أثرت في نفسية صالح وغادر المكان، وحاول والده أن يشرح لعلاء الأمر، وغضبت الوالدة من حديث إبنها، وأخبرته أن هؤلاء الناس أكرموهم واعتنوا بهم، ثم تتحدث عواطف بأن صالح كان في غاية الاحترام والمروءة معهم، ولكن علاء يصر على موقفه وينصرف الجميع.
تمضي الأيام، ويبدأ صالح في  التعود على رحلات البحر، ويقوم بمساعدة والده بصورة أكبر، ويطور عملية الصيد، ويستعين بزملائه في حارة  البحر، وبعد سنوات يتقدم في الدراسة بنجاح كبير، وفي جلسة من جلسات المساء بين الشيخ المناع والبحار الدخش يخبره بأن العائلة يقدرون لهم مواقفهم السابقة هو وصالح، وأن والدة عواطف ترغب في أن تزوج بنتها لصالح بعدما عرفت عن أخلاقه، ويفرح الدخش كثيرا، ويذهب إلى المنزل، ويخبر إبنه الذي يرفض الفكرة تماما ويقول لوالده:ـ إن في منزل الشيخ مناع إنسان سيء الخلق متغطرس ولن أنسى له الإساءة والطريقة التي تعامل معنا بها. ويحاول الأب أن يخفف عنه ولكن صالح يصر، وإنه يرغب في إكمال دراسته ويعود الدخش في  الليلة الثانية للشيخ مناع ويخبره بحديث ولده، وأن صالح مصر على إكمال دراسته، وإنه يدعو الله أن يسخر لها إبن الحلال.
بعد أشهر يعيد الشيخ مناع الحديث مع الدخش، بأنه مستعد أن ينتظر إلى ما بعد إتمام دراسة صالح وفقط يعملون الآن خطوبة وملكة ومرة أخرى يحمل الدخش الفكرة إلى المنزل، ولكن صالح يرفض، وتحاول أمه إقناعه بأن الفتاة طيبة، ولكنه لا يقبل بأي حال من الأحوال.
ثم تأتي الفرحة الكبرى عندما تخرج صالح من الثانوية، وحصل على بعثة إلى مصر في كلية  الطب، وفرح والده، وفرحت العائلة وحتى الشيخ مناع وأهل حارة البحر أعربوا عن فرحتهم واحتفلوا بصالح.
واستمر صالح يرتب لموضوع السفر، وذهب مع والده في رحلة صيد، وعاد بأسماك كثيرة، وكانت سعادته غامرة أن الأمور انفتحت أمامه، ولكن والده أحس بتعب عارض لم يمكنه من الذهاب طوال الأسبوع للصيد، فأصر صالح أن يذهب هو، وإمام الحاجة سمح له الأب بعد أن عرف أنه قد تدرب وفهم الصنعة.
يخرج صالح إلى الجزر، ثم يبقى لساعات ولا يجد صيد وفير، فيتقدم نحو (عرق المجرى) وهو مكان بحر عميق تسير فيه أسماك الناجل تعود الصيادون أن يجدوا فيه الصيد الوفير، ولكن البحر كان هائجا، والأمواج تحرك القارب بشدة يمينا ويسارا.
استمرت العاصفة وهيجان البحر، وصالح يكافح بمفرده ويحاول تثبيت القارب، ويتذكر نصائح والده في مثل هذه الظروف، وأن على الانسان أن يحترس لأن البحر غدار، وفي غمرة هيجان البحر يسمع صالح صوتا من بُعد لإنسان يصيح ويحاول الإقتراب منه، ولكن هيجان البحر في الناحية الأخرى أشد، وكانت المفاجأة أن يرى صالح أن الذي يصيح وينادي ويطلب الغوث وعلى وشك الغرق هو علاء إبن الشيخ المناع، ويتذكر موقفه الغليظ وسلاطة لسانه وكبريائه، فيبتعد عنه، ويتركه للبحر، فما زال يتذكر إهاناته والطريقة التي عامله بها، في وقت أحسن فيه هو إلى أهله وأخته.
يواصل الابتعاد عنه، ويرتفع صراخ علاء واستغاثته، ويحس صالح بصراع الضمير، بين واجبه نحو إنقاذ هذا الإنسان، وبين ألمه لما أصابه من جرح منه ما يزال غائرا في نفسه، ويتذكر أحاديث والده عن المروءة والتسامح والعفو في ساعات القدرة، وأحاديث جماعة المركاز في حارة البحر وأخلاقهم ومروءاتهم، وكيف يربون أولادهم عل ذلك اللون من السمو والتسامح، وتنتصر في داخله مروءة أولاد حارة البحر، ويقترب بشدة من مكان علاء، ويرمي له الحبل، ويساعده على الإقتراب من القارب، ويحاول أن يبتعد عن مكان هيجان البحر، ثم ينتظر هدوء البحر ويساعده على الصعود إلى القارب، ويرتمي علاء، وهو خائر القوى وينظر إلى صالح وهو يقدم له الماء، ويحاول مساعدته على إستعادة أنفاسه.    بعد قليل يتحدث علاء ويقول:ـ ياصالح أنا ما أقدر أجازيك.. أنقذت حياتي يا صالح وينظر إليه صالح وهو يواصل مساعدته:ـ الحمد لله على السلامة.ثم يتجه به عائدا إلى المرسى في جدة، ويكرر علاء الإعتذار والأسف، وفي المرسى يخاطبه صالح:ـ ترى يا علاء أنا ما ساعدتك إلا لأن هذه أخلاق أولاد حارة  البحر.. أسأت إلي وأنا أحسنت إليك لأنك إنسان لك رصيد كبير عندي، وهذا الرصيد هو مروءة أبوك وأمك معنا، وما ننسى الجيرة والإحترام رغم الطريقة السيئة التي  عاملتني بها، وأنا أحاول مساعدة أختك "عواطف" لكن عليك أن تتذكر إننا أولاد حارة البحر نعتز بمروءاتنا، ولكننا لا نقبل من أي  إنسان أن يدوس على كرامتنا، ولولا أخلاق أولاد حارة البحر لتركتك تلقى مصيرك بين أمواج البحر، وشفع لك رصيد الوالد وأسرتك.
وحاول علاء أن يكرر الإعتذار ولكن صالح سار في الطريق الآخر متوجها إلى حارة البحر.
 ومضت الأيام، وتكرر الإتصال من عائلة عواطف بأنها ترغب في الإرتباط بصالح، لكنه أصر على موقفه، وأنه يريد أن يكمل دراسته، وسافر إلى مصر، ومضت سنوات الدراسة، وآلمه أن يسمع عن تدهور صحة عواطف حتى أصبحت تعزف عن الطعام، وشاع في حارة البحر مرضها، وآلمهم لأنها بنت إنسان صالح هو الشيخ مناع، وبدأوا يتداولون القصة، وتعلقها بصالح ورفضه بين مؤيد ومعارض، وصالح لا يلتفت إلى أي شيء من ذلك، يحضر من مصر ثم يعود ليواصل دراسته.
    تخرّج من الجامعة، وعاد إلى جدة وبدأ في ممارسة عمله كطبيب، وفرح به الوالد والوالدة والأهل، وسمع عن تدهور صحة عواطف، وذهب إلى الشيخ مناع، وأخبره بأنه يرغب في مساعدتهم في علاج عواطف، وشكر له الرجل مروءته ، وقام بعمل الترتيب، ليقوم صالح بالكشف عليها والإطلاع على ماكانت تتناوله من أدوية.
أثناء اللقاء نظر صالح إلى عواطف، وأحس بألمها وقلقها، وانها قد فقدت الكثير من وزنها، وأمها توضح بأنها لم تعد تأكل ولا تشرب، وأحس صالح بأن مرض عواطف نفسي أكثر منه جسدي، وأن جزء من هذا الألم بسبب موقفه هو منها وتعلقها به، وانحنى يواصل فحصها، وهي تنظر إليه، وبعد قليل وضع في يدها جهاز الضغط، ثم سحب جهاز قياس الحرارة، وتحسس أجزاء من جسمها ليتأكد من ضربات القلب، وفوجيء بأنها تمر بحالة ضعف خطيرة، وأمسك بيدها يحاول قياس النبض، ولاحظ قطرات من الدمع تتساقط من عينيها، وأبتعدت الأم خارجة وسمعتها تقول:ـ سامحني يا صالح.. سامحني أرجوك.ويمسك صالح بيدها ويقول:ـ أنت سامحيني يا عواطف، ولكن أنا واثق أن كل شيء إن شاء الله رايح يتصلح، وحتكوني بخير وعافية، وأنا غيرت كل الأدوية وعلاجك في الأكل، فأرجوك كلي وغذي نفسك.ـ إذا أنا حا آكل واتعافى علشانك إنت بس.. وعلى شان طلبت.. وما أخفيك إني عشت السنوات الماضية كلها وأنا أتذكرك وأتألم لما فعله علاء معك، وأحس بعمق الذنب، وأدعو لك بالنجاح والحمد لله نجحت.. بس أكرر يا صالح سامحني.. أرجوك سامحني.    ويكمل صالح أعطائها بقية الدواء، ويجلسها ثم ينصرف على أساس أن يعود إليها بعد أن تتحسن حالتها وعاد إلى المنزل وشرح لوالده ما تم فبكى الوالد وبكت أمه وهي تقول: ـ الحمد لله أنك اثبتت أنك ولد أصول ورفعت رأسنا، وموقفك مع عمك مناع وبنته موقف نبيل.
    وبعد ايام كان يسير في الحارة، ويستمع الى بعض كلمات التجريح بأنه كان خلف مرضها، ولكنه لا يلقى بالا لكل ذلك، ويواصل عمله واتصاله، ويأوي إلى بشكته في المساء من أولاد حارة البحر، ويقضي معهم ساعات ممتعة.
    بعد أسبوع حمل حقيبته وذهب إلى منزل الشيخ مناع ليطمئن على عواطف، وطرق الباب ووجد الشيخ مناع يقف على الباب ويقول:ـ ولد أصول.. ولد أصول يا صالح.. لكن قضاء الله اسرع يا ولدي.. لقد توفت الآن عواطف والحمد لله على كل حال.وظل بجوارهم، وتم تشييع الجنازة وهو يسير مع الناس ويستمع إلى تعليقات من بعضهم، وكأنه هو السبب في كل ما حصل، ويتقدم أحد المشيعين ويقترب منه وكأنه يريد أن يسمعه حديثه:ـ صحيح.. صحيح كلام الناس اللي قالوا: يقتلوا القتيل ويمشوا في جنازته.. عجيبة ناس ما تخجل لا من الله ولا من خلق الله.ويرد عليه من الطرف الآخر زميل له:ـ صحيح يقتلوا القتيل ويمشوا في جنازته.ولم يستطع صالح تحمل البقية الباقية، واغتنم اقتراب الجنازة في اتجاه مقابر أمنا حواء ودخل إلى زقاق جانبي، وهو منكس الرأس، وعاد إلى منزله، ولقيته أمه وضمته إلى صدرها، وشكا لها ولكنها طمأنته قائلة:ـ أن هناك رب يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأنت ولدنا يا صالح، وأهل حارة البحر يعرفوا أخلاق أولاد حارة البحر.