شاركنا على صفحاتنا الاجتماعية

(منذ ثلاثمائة عام كان الذين حكموا البحار هم الذين حكموا العالم لقرون عدة، أما اليوم فالذين يسيطرون على الفضاء هم يحكمون العالم والذين يتحكمون في التكنولوجيا هم الذين يتحكمون في العالم، والذين يُحكمون قبضتهم على المعلومات هم الذين يُحكمون قبضتهم على العالم).

 أحاديث في الاعلام

القضاء.. والقدر..

د. محمد عبده يماني

كان الشعراوى يؤكد فى كل حواراته أن المعرفة ليست بالقراءة والكتابة فقط، ولكن بالفهم العقلى والاستيعاب القلبى، ومما عرفته عن هذا الرجل تلك الجوانب الفقهية التى لم يعرفها كثير من الناس، فانه عندما تعرض عليه مسألة لا يتسرع بالفتوى فيها، وإنما يتعمق، ويتدبر ثم يفتى بما يوفقه الله إليه، ولعل أكثر ما سرنى فى فتاوى الشيخ الشعراوى.. أسلوبه المبسط، ونظرته الى السائل، ومخا طبة الناس على قدر ع قولهم والحرص على إيصال الفتوى الى السائل بصورة تتحقق معها الفائدة المرجوه كما أن قدرته على التحليل الدقيق لكل مشكلة تعتبر مما يميز منهج الشيخ الشعراوى فى الإفتاء، وكذلك التصور الواعى لكل قضية، وهذا المنهج فى الفتوى أوصل الشعراوى وساعده على استنباط الأحكام الفقهية من الكتاب والسنة وإقامة البرهان والحجة على كل رأى يبديه أو فتوى يعطيها، فالرجل إنما يقرأ ويكتب ويفتى بنور من نور الله عز وجل الذى نور قلبه وشرح صدره ومنحه هذه القدرة.

ومن الأمور ـ مثلا ـ التى رأيناه يتعمق فيها بوضوح.. قضية القضاء والقدر "السؤال الأزلى هل الإنسان مسير أم مخير"؟.. والمجادلات التى أثارها ويثيرها الكثيرون حول هذا السؤال بعلم به أو بغير علم.. والجدل الذى يدور حول ما يقال أن الله خلقنا، وخلق أفعالنا، فلماذا يحاسبنا على أعمالنا الشريرة، ومادام كل شئ مكتوب ومقدر، فلماذا الحساب؟! وهل يستطيع أن يضع ويفعل شيئاً إلا بما يشاء الله.. يقول الشيخ الشعراوى.. إن هذا السؤال الأزلى لا تجده إلا على ألسنة الذين أسرفوا على أنفسهم وعصو الله. ولا تجد أحداً يقول بالمقابل.. إذا كان كل شئ مكتوب.. فلماذا يدخلنى الله الجنة ويُنَعّمنى فيها؟! ذلك سؤال لا تسمعه أبداً..

ويقول.. ظن بعض الناس أن الحرية الممنوحة للإنسان تتصادم مع مشيئة الله فى الكون.. ويستشهدون بالآية الكريمة "وما تشاءون إلاَّ أن يشاء الله. إنًّ الله كان عليما حكيما" وبالآية " فإنَّ الله يُضَّل من يشاء ويهدى من يشاء" ويقولون. اذا كانت هذه هى الآيات.. وهذه هى مشيئة الله.. فكيف نحاسب يوم القيامة؟.

ويقول الشعراوى.. لا يوجد فى كون الله من يستطيع أن يخرج عن مشيئة الله.. هذه حقيقة.. ومع هذه الحقيقة فإن الناس هم الذين يلقون بانفسهم الى التهلكه وهم الذين يفعلون ما يجعلهم يستحقون عذاب الله.. أو يستحقون رحمته كما يقول الله جل جلاله "إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون" فالإنسان حين اختار حمل الأمانة بعد أن أبت السماوات والأرض والجبال حملها.. صور له عقله أنه قادر على أن يؤديها وأن يتبع منهج الله.. فى الصلاة والشكر والعبادة وما كلفه الله به.. ولكنه عندما بدأ حمل الأمانه وهى الدنيا.. أغراه الشيطان فانطلق فى المعصية وأشرك بالله وعبد الأحجار والشمس والقمر والنجوم والحيوان وغير ذلك فأضاع الأمانة.. وعندما جاء الموت وهو وقت أداء الأمانة..فإنه قابل الله ولم يستطيع أن يؤديها.. وقد حملها باختياره.. وشاءت قدرة الله أن يعطى الإنسان الاختيار فخلق مختارا.. كما أراد الله أن يجعل هذا الإنسان سيداً لهذا الكون وأعطاه كونا يخدمه وفيه كل ما يحفظ حياته واستمرار هذه الحياة، وهى مستمرة لخدمته، كالشمس والريح والقمر، والأرض، وكل شئ يخدم الإنسان فى هذا الكون المقهور ويؤدى مهمته على أكمل وجه فقوانينه محكمة ومستمرة ومنفذة بأمر الله. وذلك حتى يطمئن الإنسان على وجوده وبقائه.. فلا هو مشغول بشروق الشمس فى موعدها ولانزول المطر من السماء ولا تعاقب الليل والنهار وغير ذلك من تصرفات الطبيعة.. فقد أعفاه الله من كل هذا حتى لا يشغل نفسه بالكون عن خالق الكون.

وليس الإنسان هو الجنس الوحيد فيها، بل فيها أجناس أخرى.. ولكنه هو أرقى هذه الأجناس وكلها فى خدمته.. ولكنه امتاز عنها بالفكر.. والفكر معناه المقياس الذى بين البديلات، والأمر الذى لا بديل فيه، لا عمل للعقل فيه.. وهنا نتعرض لقضية "البديل" أى تفعل أو لاتفعل، ومادام هناك بديل، فالعقل يرجح ويختار.. فالأمور التى لا بديل لها.. لا عمل للعقل فيها، ورغم كون الإنسان أعلى الأجناس.. إلاَّ أنه فيه حيوانية، وفيه نباتية، وفيه جمادية.. وبكل ما فيه من تلك الحيوانية والنباتية والجمادية فهو مسير كالجماد والنبات والحيوان، فهو كالجماد تتحكم فيه قوانين الجاذبية، وهو ينمو كالنبات وليس له عمل فيه، ويحس ويتحرك كالحيوان، وليس له عمل فى الاحساس ولا فى الحركة وإدارة دواليب جسمه وأجهزته كالدورة الدموية وعلم الرئة، ولا دخل له فيها وكذلك باقى أجهزة الجسم فلا إرادة له فيها ولا يصنعها.. إذن فهو مسخر فيها، ولا اختيار له فى شئ.وبكل الايمان والوضوح يحمد الشيخ الشعراوى ربه سبحانه وتعالى الذى جعله مسيرا ولا عمل له فى هذه المسائل، لأنها تؤدى مهمتها وهو نائم، فلو كان له اختيار فمن يدبرها له وهو نائم.وهنا يأتى التساؤل.. متى تنفصل فيه خاصية الانسان عن باقى الاجناس.. والجواب يكمن فى الخاصية التى تجعله إنسانا وهى العقل والفكر إذاً فهى المنطقة التى يعرض فيها الفعل على العقل، يفعل أو لا يفعل.. فتلك هى المنطقة التى يوجد فيها الاختيار وهى منطقة التكليف من الله، وذلك فان فاقد هذه لا يكلف من الله.. أى لا يكلف المجنون.. لانه فقد اداة الاختيار بين البديلات. وكذلك الذى لم ينضج عقله بعد.. لم يكلف أيضا لأنه لا يصبح أهلا للحكم على الاشياء.والخلاصة أن ربط التكليف بالعقل وجودا ونضوجا، يدل على أن مهمة التكليف هى فى الأمر الاختيارى الذى يجد فيه الانسان بديلا يفعل أو لايفعل.. ولو أن الانسان لم يكن مخيرا لاستوى أن يكلف المجنون وغير ناضج العقل، إذاً مادام قصر التكليف على العاقل.. والعاقل الذى نضج عقله.. أى الذى بلغ سن الرشد.. فيكون التكليف هو فى منطقة الاختيار، ومنطقة الاختيار هذه هى التميز.

إذاً فالذى يقول إن الانسان على اطلاقه مسير، يكون مخطئا والذى يقول أن الانسان على اطلاقه مخير فهو مخطئ أيضا.. إننا إذا حلَّلنا الانسان الى عناصره، فسنجد فيه جمادية وفيه نباتية وفيه حيوانية، فما فيه من هذه الأشياء فهو مسير فيها، ولا اختيار له فيها، وما فيه من منطقة الاختيار بين البديلات بواسطة العقل ففيها تكون منطقة الاختيار، تفعل هذا..ولاتفعل هذا.. هذا هو معنى الاختيار فى الكون.. فالله سبحانه وتعالى لا يريد قوالب تخضع، ولكنه يريد قلوبا تخشع، ولذلك فهو سبحانه وتعالى يريد أن يأتيه الانسان بقلب محب عاشق والايمان هو اختيار لحب الله فى القلب.. فاذا كان حب الله فى القلب عظيما.. كان الايمان بمنهجه أعظم.

الخوف من الفجوة
تهاويل
بيوتنا والحاجة الى الحب