شاركنا على صفحاتنا الاجتماعية

(رجل الإعلام هو حجر الزاوية في مدى قدرتنا في التعامل والتنافس في ظل سياسة الوفاق الدولي والتبادل الثقافي، وإلا سنصبح دولاً متلقية مستقبلة غير مؤثرة ويقتصر دورنا بالتالي على عملية الاستقبال فقط، ومن هنا تأتي عملية التأثير والإعداد والتنبيه للمخاطر والقدرة على التفاعل والتأثير).

 أحاديث في الاعلام

رمضـان وتـدبّـر القــرآن
د. محمد عبده يماني


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد..
جاء رمضان بجماله وجلاله وبظلاله ونواله، بروحه وريحانه، برحماته ونفحاته، ببركته وخيراته، جاء رمضان بنهاره العاطر، وليله الزاهر، وأوقاته النيّرة، ولحظاته العامرة، موسم الخيرات، وربيع الأوقات، شهر القبول والسعود، شهر العتق والجود، أوله رحمة، وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: «إذا كانت أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، ونادى منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة» رواه ابن ماجة، فالحمد لله الذي بلغنا رمضان، فكم من طامع بلوغه لم يبلغه.
إذا ذكر رمضان ذكر القرآن وإذا ذكر القرآن ذكر رمضان، وذلك لأن لشهر الصوم خصوصية بالقرآن، بل إن الله عز وجل حين ذكر هذا الشهر الكريم في كتابه ذكر معه الامتنان بنعمة نزول القرآن: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة: 185].


فقد امتدح الله تعالى في هذه الآية الكريمة شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره لإنزال القرآن العظيم، بل ورد في السنة المطهرة بأن الكتب السماوية الأخرى نزلت في هذا الشهر العظيم أيضاً، فعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لستٍ مضين في رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان» رواه الإمام أحمد والطبراني.
إلا أن القرآن الكريم تميّز نزوله عن هذه الكتب المشرفة بميزة عظيمة وخاصية جليلة وذلك لمزيد شرفه وعظيم فضله، حيث إن الكتب السماوية كانت تتنزل على الأنبياء السابقين جملة واحدة، وأما القرآن العظيم فقد نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وذلك في ليلة القدر من شهر رمضان (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)، ثم نزل بعد ذلك مفرقاً بحسب الأحداث والوقائع خلال ثلاث وعشرين سنة، كما ثبت ذلك عن حبر الأمة وترجمان القرآن سيدنا عبدالله بن عباس رضي الله عنهما.
إن الحكمة في هذا النزول هي تعظيم القرآن الكريم، وتعظيم أمر من نزل عليه وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتعظيم الشهر الذي نزل فيه وهو شهر رمضان وتعظيم الليلة التي نزل فيها، وهي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.
كل ذلك يدل دلالة قاطعة على عظيم شأن شهر الصوم، وأن له خصوصية بالقرآن الكريم، إذ فيه نالت الأمة هذا الفضل العظيم، من الله العليم الحكيم، بإنزاله وحيه العظيم وكتابه الكريم، المتضمن للهداية والنور (هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة: 185]، هداية لمصالح الدين والدنيا، وتبيان للحق بأوضح بيان، وفرقان بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والظلمات والنور.


فحري بشهر هذا فضله وهذه مكانته وهذا شأنه وهذه منة الله على عباده فيه، أن يعظمه العباد، ويجعلوه موسماً يتقربون فيه إلى رب العباد، ويدخرون منه زاداً ليوم المعاد..
وإن من أعظم تلك العبادات، وأجلّ القربات، في شهر الخيرات، دراسة القرآن الكريم والاجتماع عليه، وعرض القرآن على من هو أحفظ منه، والاستكثار من تلاوة القرآن، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان جبريل يلقاه كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فَلَرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة». وفي العام الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عارضه جبريل عليه السلام القرآن مرتين كما روى البخاري.
أخذ من هذا الحديث مشروعية ختم القرآن في رمضان، لأن جبريل عليه السلام وسيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم كانا يختمان في رمضان ما سبق نزوله من القرآن، وفي السنة الأخيرة ختماه مرتين بالمدارسة والمعارضة، فهذا دليل على استحباب ختم القرآن في رمضان مرة أو أكثر.


فإذا كانت تلاوة القرآن لها ذلك الأجر العظيم والثواب الجزيل كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم «من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشرة أمثالها لا أقول (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» رواه الترمذي، وقال أيضا: «اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه» رواه مسلم، وقال أيضا: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة: يقول الصيام: أي ربِّ منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان» رواه الإمام أحمد. إذا كان هذا أجر تلاوة القرآن في سائر الشهور، فكيف إذا كان ذلك في خير الشهور الذي تضاعف فيه الحسنات، وتتنزل فيه الرحمات، وتفتح فيه أبوب الجنان، وتغلق أبواب النيران وتصفد الشياطين، لاشك أنه أجر عظيم وموسم كريم، فهنيئا لمن استثمره في الطاعات، ويا خسارة من أضاعه في الملهيات والله إنه لمحروم..


للسلف مع القرآن الكريم في رمضان أحوال عجيبة، ومقامات سامية، نابعة من همم عالية، وعزائم ماضية، في شدة الاجتهاد في العبادة، خصوصا تلاوة القرآن في الصلاة وغيرها، فهذا الأسود بن يزيد النخعي رحمه الله كان يقرأ القرآن كل ليلتين في رمضان، وكان إبراهيم النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة، وفي بقية الشهر في ثلاث، وكان قتادة يختم في كل سبع دائما، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر كل ليلة.
وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: فإنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام. وكان مالك رحمه الله إذا دخل رمضان يترك قراءة الحديث والعلوم الأخرى ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف. وكان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان، وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على تلاوة القرآن.. والآثار عنهم في ذلك كثيرة.


أما في هذا الزمان فقد انشغل كثير من المسلمين بمشغلات كثيرة، من قنوات وصحف وملهيات، حتى لا يجد أحدهم وقتاً يقرأ فيه صفحات معدودة من كتاب الله في اليوم الواحد. ولكن مع هذا نجد كثيراً من المسلمين من يتجه إلى تلاوة القرآن في رمضان، ينافس في ذلك فيقرأ الجزء والجزءين في اليوم الواحد، بل إن كثيراً منهم من يختم عدة ختمات في شهر رمضان، ولاشك أن ذلك خير عظيم، وفضل كبير يتنافس عليه الصائمون، ولكنْ كثير من هؤلاء القراء يترك مرتبة عظيمة من مراتب التلاوة وهي تدبر القرآن وفهم معانيه والعمل به، إذ هو المقصود الأعظم من تلاوة القرآن، أما مجرد التلاوة فليست هي الغاية، وعن هذا الأمر أردت أن أنبه في هذا المقال.
فالله عز وجل أنزل كتابه المبين هدى ورحمة، وضياءً ونوراً، وبشرى وذكرى للذاكرين، وجعله مباركاً وهدى للعالمين، وجعله شفاءً من الأسقام، خصوصا أسقام القلوب من شبهات وشهوات، ولا ينال القارئ ذلك إلا بتدبر كتاب الله، وقراءته بخضوع وسكينة وحضور قلب، وبذلك ينتفع بالتلاوة من جهتين: فهم القرآن وهو أعظم الغايتين، واحتساب الأجر والتلاوة.


ولهذا فإن الله تبارك وتعالى أمر عباده وحثهم على قراءة القرآن وتدبره في آيات كثيرة، قال سبحانه وتعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [ص: 29]، وبيّن عز وجل لنا شأن القرآن ومكانته العظيمة وما ينبغي تجاهه بمثال عجيب ضربه الله عز وجل لعظمة القرآن فقال: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر: 21].
ووصف تأثر المؤمنين الصالحين الصادقين وخشوعهم عند تلاوة القرآن الكريم فقال سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال: 2]، وقال عز وجل: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر: 23] وقال سبحانه: (.. إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً) [مريم: 58].
وعاتب سبحانه المؤمنين على عدم خشوعهم عند سماع القرآن، وحذرهم من مشابهة الكفار في ذلك، فقال سبحانه: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16].
وعاب على الذين لا يتدبرون القرآن فقال سبحانه: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد: 24]. وقال: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) [النساء: 82].
وبيّن سبحانه أن سبب عدم هداية من ضلّ عن الصراط المستقيم هو ترك تدبر القرآن والاستكبار عن سماعه فقال تعالى: (قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ) [المؤمنون: 66-68].


وأخبر عن شكاية الرسول صلى الله عليه وسلم من هجران قومه القرآن فقال سبحانه: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) [الفرقان: 30]. قال ابن كثير رحمه الله: «وترك تدبره هجرانه».
ومثّل سبحانه حال اليهود مع التوراة بأقبح تمثيل فقال عز وجل: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً) [الجمعة: 5]. قال بعض أهل العلم: «فدخل في عموم هذا من يحفظ القرآن من أهل ملتنا ثم لا يفهمه ولا يعمل به».
وفي وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمرو رضي الله عنهما حين بلغه أنه يختم القرآن كل ليلة قال له: «لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث» رواه أبو داود والترمذي، وحين وصف صلى الله عليه وسلم الخوارج قال عنهم: «يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم» رواه البخاري ومسلم. قال النووي رحمه الله: «المراد أنهم ليس لهم فيه حظ إلا مروره على لسانهم، لا يصل إلى حلوقهم فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم، لأن المطلوب تعلقه وتدبره بوقوعه في القلب».
وهكذا جاء تحذير الصحابة رضوان الله عليهم من ترك تدبر القرآن وذمّ من يفعل ذلك، جاء رجل إلى عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فقال: «هذًّا كهذِّ الشعر؟ إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع» وقال رضي الله عنه أيضاً: «لا تهذّوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة» والدقل هو رديء التمر..
وهذا عبدالله بن عمر رضي الله عنهما يقول: «قد رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته لا يدري ما آمره ولا زاجره وما ينبغي أن يقف عنده، ينثره نثر الدقل».
وجاء رجل إلى عبدالله بن عباس رضي الله عنهما فقال: إني رجل سريع القراءة، فربما قرأت القرآن في ليلة مرة أو مرتين، فقال ابن عباس: «لأَن أقرأ بسورة واحدة أعجب إليَّ من أن أفعل مثل الذي تفعل، فإن كنت فاعلاً بعد فاقرأ قراءة تسمع أذنيك ويعيه قلبك».


وعلى خطا الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام مضى التابعون وتابعوهم، اعتناءً بالقرآن، بتدبر آياته، والوقوف عند حدوده والعمل به، والاستشفاء بآياته، وجعله دواءً للقلوب من أمراض الشبهات والشهوات، يقول الإمام الرباني إبراهيم الخواص رحمه الله تعالى: «دواء القلوب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين»، ويقول الإمام الزاهد مالك بن دينار رحمه الله: «ما زرع القرآن في قلوبكم يا أهل القرآن؟! إن القرآن ربيع المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض».
ويصف الإمام الآجري رحمه الله تعالى في كتابه (أخلاق حملة القرآن) ما ينبغي أن يكون عليه قارئ القرآن فيقول: «..فالمؤمن العاقل إذا تلا القرآن استعرض القرآن، فكان كالمرآة يرى بها ما حسن من فعله وما قبح فيه، فما حذّره مولاه حذره، وما خوّفه به من عقابه خافه، وما رغّب فيه مولاه رغب فيه ورجاه، فمن كانت هذه صفته أو قارب هذه الصفة فقد تلاه حق تلاوته، ورعاه حق رعايته، وكان له القرآن شاهداً وشفيعاً، وأنيساً وحرزاً، ومن كان هذا وصفه نفع نفسه ونفع أهله، وعاد على والديه وعلى ولده كل خير في الدنيا والآخرة». ويقول في موضوع آخر عن كيفية تدبر المؤمن للقرآن «..وكان همّه عند التلاوة للسور إذا افتتحها: متى أتعظ بما أتلوه؟ ولم يكن مراده: متى أختم السورة؟ وإنما مراده: متى أعقل عن الله الخطاب، متى أزدهر، متى أعتبر؟ لأن تلاوة القرآن عبادة، والعبادة لا تكون بغفلة».


وقال الإمام النووي رحمه الله في كتابه (التبيان في آداب حملة القرآن): «ينبغي للقارئ أن يكون شأنه الخشوع والتدبر والخضوع، فهذا هو المقصود المطلوب، وبه تنشرح الصدور، وتستنير القلوب، ودلائله أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر».
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه (مفتاح دار السعادة): «فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه جامع لجميع منازل السائرين، وأحوال العاملين، ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة التي بها فساد القلب وهلاكه. فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأه بتفكر حتى مرّ بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة، ولو ليلة، فقراءة آية بتفكّر وتفهّم خير من قراءة ختمة بغير تدبّر وتفهّم، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان، وذوق حلاوة القرآن».
وقد عدَّ العلماء تدبر القرآن وتفهمه من النصح لكتاب الله، الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث تميم الداري رضي الله عنه حيث قال: «الدين النصيحة» قلنا لمن؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم» رواه مسلم. قال الإمام النووي رحمه الله: «قال العلماء رحمهم الله: النصيحة لكتاب الله تعالى هي الإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله، لا يشبهه شيء من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله الخلق بأسرهم، ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته، وتحسينها والخشوع عندها، وإقامة حروفه في التلاوة، والذب عنه لتأويل المحرفين وتعرض الطاغين، والتصديق بما فيه، والوقوف مع أحكامه، وتفهّم علومه وأمثاله، والاعتناء بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتسليم لمتشابهه، والبحث عن عمومه وخصوصه وناسخه ومنسوخه، ونشر علومه، والدعاء إليه وإلى ما ذكرناه من نصيحته».
أسباب عدم تدبر القرآن وطرق علاجها
لعدم تدبر القرآن أسباب عديدة يقع فيها القارئ مع الغفلة عن ذلك فتصرفه عن تدبر كلام الله وفهم معانيه، من أهم تلك الأسباب والصوارف ما يلي:
1- المعاصي وأمراض القلوب: وهي أعظم ما يصد عن تدبر كلام الله واتعاظ القلب به، وذلك لأن الإصرار على المعاصي يسبب ظلمة القلب ويراكم السواد عليه حتى يصبح القلب متكدساً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً ولهذا بيّن سبحانه أن عدم خضوع الكفار للحق وإقرارهم به سببه ما تراكم على قلوبهم من الذنوب والآثام العظام.. قال سبحانه: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14].
قال الإمام الزركشي رحمه الله: «اعلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي ولا يظهر له أسراره وفي قلبه بدعة أو كبر هوى أو حب الدنيا أو هو مصرٌّ على ذنب أو غير متحقق بالأمان أو ضعيف التحقيق أو يعتمد على مفسر ليس عنده علم أو راجع إلى معقوله، وهذه كلها حجب وموانع بعضها آكد من بعض».


2- قصر الهمة على كثرة القراءة وإنهاء السورة أو الختمة في أقرب وقت: وهذه حال كثير ممن وفقوا لتلاوة القرآن حيث تجد في نيته أن يختم سريعاً دون تفكير في تدبر ما يقرأ خصوصاً في المواسم الفاضلة كهذا الشهر العظيم وقد يتعذر بأن هذا فعل عدد من السلف ممن كانوا يختمون في يوم وليلة ختمات ونحو ذلك وغفل هؤلاء عن وصية المصطفى صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمرو حيث قال له: «اقرأ القرآن في شهر» قال عبدالله: إني أجد قوة، حتى قال: «فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك» رواه البخاري، وفي رواية أخرى قال له: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث» رواه أبو داود والترمذي، نعم ورد عن بعض أهل العلم أن الاوقات الفاضلة كرمضان يستحب فيها الإكثار من تلاوة القرآن، ولكن هؤلاء كانت لهم ختمة بل ختمات يتدبرون القرآن، لذا نقول بأنه لا بأس أن يكثر من تلاوة القرآن في شهر رمضان، لكن ينبغي أن يكون للمؤمن ختمة للتدبر والتأمل في كلام الله تعالى وهو المقصود الأعظم وعليه الأجر الأجزل ولهذا ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه تعلم سورة البقرة في ثماني سنوات..
3- الانشغال بتجويد القراءة وتحسين التلاوة وقوة الحفظ عن التدبر: وهذا أمر مشاهد لدى كثير من القراء، يقول الإمام ابن قدامه رحمه الله: «وليتخلَّ التالي عن موانع الفهم، مثل أن يخيّل له الشيطان أنه ما حقق تلاوة الحرف ولا أخرجه مخرجه فيصرف همته عن فهم المعنى».
وبعد أن عرفنا موانع تدبر القرآن يحسن بنا أن نقف على طرق علاجها، والسبل المعينة على تدبر القرآن، فمن ذلك:
1- الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم فهي مطردة له قال تعالى: (فَإذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَذِينَ آمَنُوا وعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ والَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ) سورة [النحل: 98-100].
2- التهيؤ للتلاوة بالوضوء والسواك وتهيئة الذهن وتصفية الفكر عن كل ما يشغله واختيار المكان المناسب البعيد عن كل ما يشغل القلب والجوارح ولاشك أن خير تلك المواضع بيوت الله عز وجل.
3- تحسين الصوت بالقراءة دون تكلف أو قصر الهمة على ذلك قال صلى الله عليه وسلم: «حسّنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً» رواه الدارحي والحاكم.
4- الترتيل: والمراد به القراءة بتأنٍ دون إفراط في الإسراع، قال الإمام القرطبي عند تفسير قوله تعالى (ورَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً) [المزمل: 4]: «أي لا تعجل بقراءة القرآن بل اقرأه في مهل وبيان مع تدبر المعاني». وقال الإمام النووي رحمه الله: «ينبغي أن يرتل قراءته» وقد اتفق العلماء رضي الله عنهم على استحباب الترتيل، قال تعالى: (ورتل القرآن ترتيلاً) [المزمل: 4]  وثبت عن أم سلمة رضي الله عنها: «أنها نعتت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة مفسرة حرفاً حرفاً» رواه أبو داود والنسائي والترمذي. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لأن أقرأ سورة أرتّلها أحب إليّ من أن أقرأ القرآن كله».. وقد نهى عن الإفراط في الإسراع ويسمى الهذّ، فثبت عن عبدالله بن مسعود أن رجلاً قال له: إني أقرأ المفصل في ركعة واحدة، فقال ابن مسعود وهذًّا كهذِّ الشعر، إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع» رواه البخاري ومسلم.. قال العلماء: «والترتيل مستحب للتدبر ولغيره».
5- الاجتهاد في الخشوع: ولا بأس بالبكاء لمن قدر عليه من غير تكلف قال الإمام النووي: «وهو صفة العارفين وشعار عباد الله الصالحين». قال تعالى: (ويَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ ويَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) [الإسراء: 109] وقد وردت فيه أحاديث وآثار السلف كثيرة فمن ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرؤوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا».


ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه أسوة حسنة فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اقرأ عليّ» قلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال صلى الله عليه وسلم: «فإني أحب أن أسمعه من غيري» فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت (فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا) قال لي: «أمسك» فإذا عيناه تذرفان. متفق عليه. قال الحافظ بن حجر: «والذي يظهر أن بكى رحمة لأمته، لأنه علم أنه لابد أن يشهد عليهم بعملهم، وعملهم قد لا يكون مستقيماً فقد يفضي إلى تعذيبهم» وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: «كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم».
وقال الإمام الغزالي رحمه الله: «البكاء مستحب مع القراءة وعندها، وطريقه في تحصيله أن يحضر في قلبه الحزن بأن يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد الشديد والمواثيق والعهود ثم يتأمل تقصيره في ذلك فإن لم يحضره حزن وبكاء كما يحضر الخواص فليبكِ على فقد ذلك فإنه من أعظم المصائب».


6- فهم معاني آيات وألفاظ القرآن: قال القرطبي رحمه الله في تفسيره: «ودل قوله تعالى(ورَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلا) على وجوب التدبر في القرآن ليعرف معناه وفيه دليل على الأمر بالنظر والاستدلال». ويقول الزركشي رحمه الله: «القرآن كله لم ينزله منزله تعالى الا ليُفمَه ويُفهم، ولذلك خاطب به أولي الألباب الذين يعقلون والذين يعلمون والذين يفقهون والذين يتفكرون (لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ولِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)».


وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم أحرص الناس على تعلم معاني الآيات والعمل بها قبل حفظها، قال ابن مسعود رضي الله عنه: «وكان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزنهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن». فحريٌ بقارئ القرآن أن لا يتجاوز آية حتى يعلم ما تدل عليه ألفاظها وإن طال وقت القراءة، فهو بذلك يحصل منافع عديدة منها: سلوكه طريقاً يلتمس به علماًً، وسعيه إلى تدبر القرآن، وبذلك يبعد نفسه عن الذم الواقع على من هجر تدبّر القرآن، وينبغي له أن يستعين بالتفاسير المختصرة، أو على الأقل كتب مفردات وكلمات القرآن، وقد تيسر الأمر في هذا العصر فطبعت مصاحف على هامشها تفاسير مختصرة أو مفردات القرآن فليحرص على اقتناء مصحف منها يقرأ فيه فإذا مر لفظ غريب نظر إلى معناه في الهامش ثم تدبر في معنى الجملة والآية حتى يفهمها.
7- استحضار أنه مخاطب بما يقرأ: فهذا القرآن -كما قال بعض السلف- رسائل من ربنا عز وجل لكل شخص، فإذا جاءتك رسالة من أحد ملوك الدنيا فما مدى اعتنائك بها وفهم معناها؟ فكيف إذا كانت الرسالة من ملك الملوك ذي الجبروت والملكوت؟ فإذا قرأت القرآن أخي المسلم تأمل ما فيه من الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والقصص والأمثال، وكأنك مخاطب به، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: «إذا قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا) فأرعها سمعك، فإنما هو خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه». ويفوتك ما تقتضيه الآية من تسبيح أو تحميد أو تكبير أو استغفار أو دعاء، قال الإمام النووي رحمه الله: «ويستحب إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى من فضله، وإذا مر بآية عذاب أن يستعيد بالله من الشر أو من العذاب، أو يقول: اللهم إني أسألك العافية، أو أسألك المعافاة من كل مكروه أو نحو ذلك، وإذا مر بآية تنزيه لله تعالى نزّه فقال: سبحانه وتعالى، أو تبارك وتعالى، أو جلّت عظمة ربنا، فقد صح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح سورة البقرة، فقلت يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت يصلي بها في ركعة، فمضى ثم افتتح سورة آل عمران فقرأها، فقلت: يركع بها، ثم افتتح سورة النساء فقرأها، يقرأ مترسلاً، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوّذ تعوّذ. رواه مسلم في صحيحه.. قال أصحابنا رحمهم الله تعالى: ويستحب هذا السؤال والاستعاذة والتسبيح لكل قارئ، سواء في الصلاة أو خارجاً».


8- ترديد الآية للتدبر وفهم المعنى: وقد كان ذلك شأن النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: «قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية يرددها حتى أصبح» رواه النسائي وابن ماجه، وهي قوله تعالى: (إن تُعَذِّبْهُمْ فَإنَّهُمْ عِبَادُكَ وإن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [المائدة: 118] وعن غيم الداري رضي الله عنه أنه كرر هذه الآية حتى أصبح (أَمْ حَسِبَ الَذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) [الجاثية: 21]. وعن عباد بن حمزة قال: «دخلت على أسماء رضي الله عنها وهي تقرأ: (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ووَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) [الطور: 27] فوقفت عندها فجعلت تعيدها وتدعو، فطال عليّ ذلك، فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي ثم رجعت وهي تعيدها وتدعو». وردد ابن مسعود رضي الله عنه: (رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه: 114] وردد سعيد بن جبير رحمه الله (واتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ) [البقرة: 281]، وردد أيضا: (يَا أَيُّهَا الإنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ) [الانفطار: 6].
9- أن يجتنب ما يقطع تلاوته مما لا يتصل بها: كالكلام مع الآخرين -إلا ما كان واجباً كرد السلام أو تشميت عاطس- فعن ابن سيرين رحمه الله أنه كان يكره أن يقرأ الرجل القرآن، إلا كما أنزل، يكره أن يقرأ ثم يتكلم ثم يقرأ، لكن لو احتاج أن يتكلم في معنى الآيات أو يسأل عنها فلا بأس في ذلك، وإنما المحذور أن يقطع التلاوة بما يخرجها من موضوعها.


10- مراعاة أحكام الوقف والابتداء: فلا يبدأ من وسط القصة أو السياق، ولا يقطع القراءة قبل تمام المعنى، وهذا مما يغفل عنه كثير من الناس حيث يلتزم البعض بما في المصاحف من أجزاء وأحزاب وأرباع مع أن كثيراً منها لم يراعِ المعنى، وأشهد مثال لذلك بداية جزء (والْمُحْصَنَاتُ) [النساء: الآية 24] حيث إن الآية متعلقة بما قبلها في سرد المحرمات من النساء.
11- أيضا مما يراعى من الوقف والابتداء في أثناء الآية الواحدة، فلابد من الوقوف عند تمام الجملة حتى يفهم المعنى صحيحا، فقد يقف القارئ وقوفاً غير صحيح فيختل المعنى، فلو قرأ قوله تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وأَجْرٌ كَبِيرٌ) [فاطر: 7]، ووقف على (الَّذِينَ آمَنُوا) لكان المعنى فاسداً، فلا بد من مراعاة مواضع الوقوف حتى تُتدبر الآيات وتُفهم على وجهها الصحيح، ولقد اعتنى علماء الأمة بهذا العلم أيّما اعتناء فألفوا المؤلفات في بيان كل موضع من القرآن يوقف عليه، كذلك سعت لجان طباعة المصاحف في هذا العصر إلى بيان مواضع الوقوف والابتداء بوضع رموز صغيرة على رأس الكلمة التي يوقف عندها، مثل: ج، صلى، قلى، هـ وغيرها، ومن أراد معرفة معانيها فليرجع إلى خاتمة تقرير مصحف المدينة النبوية، فإذا قرأت القرآن أيها المسلم راعِ تلك العلامات وقِف عندها ثم تفكر وتدبر في معنى الجملة من بدايتها إلى نهايتها فلعل الله أن يفتح عليك بفهم صحيح وعلم رصين ما لم يفتحه على كثر من الناس إذا صحت نيتك وأخلصت عملك لله تعالى.
وأخيراً أؤكد بأنه ينبغي للآباء والمعلمين والمربين تعليم الناشئة والأبناء قراءة القرآن مع التدبر والفهم والسؤال الدائم عن معاني الآيات حتى ينشأوا على ذلك المنهج الصحيح فإذا قرأوا القرآن تدبروه وتفكروا فيه وحرصوا على ذلك ولم يثقل عليهم ذلك بخلاف من نشأ على قلة التلاوة وترك التدبر، هكذا كان صغار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة -أي صغاراً مقاربين البلوغ- فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا» رواه ابن ماجة.


وأختم بهذه الكلمة الجليلة من الإمام الرباني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن مسعود رضي الله عنه حيث يقول: «إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن هو حبل الله الذي أمر به، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن اعتصم به، ونجاة لمن تمسك به، ولا يعوج فيُقوّم، ولا يزوغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن رد، اتلوه فإن الله عز وجل يأجركم بكل حرف منه عشر حسنات».
 

الخوف من الفجوة
تهاويل
بيوتنا والحاجة الى الحب